مثل الحياة الدنيا

1 1442

وصف سبحانه الحياة وزينتها في موضعين من كتابه، بأنها: { متاع الغرور } (آل عمران:185)؛ وجاء في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون ) رواه مسلم . وواقع الناس في كل زمان ومكان يدل على مدى تعلقهم بزينة الحياة الدنيا وزخرفها، والعمل لأجلها صباح مساء، وكأنهم خالدون فيها مخلدون؛ إما طلبا للجاه، أو طلبا للمال، أو طلبا للشهرة، أو طلبا لغير ذلك من الشهوات والملذات؛ الأمر الذي يجعلهم مشدودين إلى مكاسبها، مشدوهين بمغرياتها، لاهثين خلف سرابها .  

وقد ضرب سبحانه في محكم كتابه مثلا لهذه الحياة، فقال جل من قائل: { إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون } (يونس:24). وهذا المثل العجيب ضربه سبحانه لمن يغتر بالدنيا، ويشتد تمسكه بها، ويقوى إعراضه عن أمر الآخرة، ويترك التأهب لها .  

وقد أكد القرآن الكريم هذه الحقيقة عن الحياة الدنيا، وأنها عرض زائل في آية أخرى؛ وهي قوله تعالى: { واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح } (الكهف:45)، وأشار إليه في آيتين أخريين؛ أولهما: قوله سبحانه: { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما } (الزمر:21)، وثانيهما: قوله عز وجل: { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما } (الحديد:20) .   

وتكمن أهمية هذا المثل القرآني، في أنه يصور لنا الحياة الدنيا تصويرا حسيا واقعيا، يراه الناس في كل مكان من هذه الأرض؛ وذلك أنه سبحانه ينـزل الماء من السماء على الأرض اليابسة الجرداء ، فينبت به الزرع، الذي يأكل الناس منه والأنعام، وتصبح الأرض به خضراء ناضرة، بعد أن كانت جرداء قاحلة، فيفرح أهلها بخيرها وثمارها أشد الفرح، ويسرون بمنظرها وجمالها غاية السرور، ويؤملون خيرا في إنتاجها ومحصولها. وبينما هم على تلك الحال من السرور والفرح والأمل، إذا بريح شديدة عاتية، تهب على ذلك الزرع فتهلكه، وتجعله رمادا كأن لم يكن شيئا مذكورا، وتذهب بخضرته ونضرته، وتفني إنتاجه ومحصوله . 

وهكذا مثل الحياة الدنيا، تبدو لأهلها وطلابها حلوة تسر الناظرين، وتغر المغفلين، وتفتن المغرورين. ولكن سرعان ما تزول تلك الحلاوة، وتذبل تلك النضارة؛ إذ من طبيعة هذه الحياة الدنيا الهرب من طالبها والساعي إليها؛ والطلب للهارب منها والفار عنها .

وقد بين ابن القيم وجه التمثيل في هذا المثل القرآني، فقال: " شبه سبحانه الحياة الدنيا في أنها تتزين في عين الناظر، فتروقه بزينتها وتعجبه، فيميل إليها ويهواها اغترارا منه بها، حتى إذا ظن أنه مالك لها، قادر عليها، سلبها بغتة، أحوج ما كان إليها، وحيل بينه وبينها " .

وقد ذكر فريق من أهل العلم بعض الحكم من تشبيه الحياة الدنيا بالزرع:  

أحدها: أن عاقبة الاغترار بالدنيا، وما يبذله المرء لأجل تحصيلها، كعاقبة النبات؛ حيث علق صاحبه على جني محصوله أملا كبيرا، لكن سرعان ما خاب أمله، لما نزل بمحصوله من الهلاك؛ وهذا الغالب على المتمسك بالدنيا، واللاهث وراء مكاسبها، أن يأتيه الموت من حيث لا يحتسب. وهو معنى قوله تعالى: { حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون } (الأنعام:44) .  

ثانيها: أن يكون وجه التشبيه مثل قوله سبحانه: { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } (الفرقان:23)؛ أي: كما صار سعي هذا الزارع هشيما تذروه الرياح، بسبب حدوث الآفات المهلكة، فكذلك سعي المغتر بالدنيا، لا جدوى منه ولا فائدة .  

ثالثها: أن الزارع لما أتعب جسمه، وكد نفسه، وعلق قلبه؛ أملا في الانتفاع بزرعه، وطمعا في جني محصوله؛ فإذا حدث ما أهلك زرعه، وذهب به، حصل له من الشقاء والحسرة الكثير؛ فكذلك حال من أسلم قلبه للدنيا، وأتعب نفسه في تحصيلها، إذا مات، وفاته كل ما ناله منها، صار العناء الذي تحمله في تحصيل أسباب الدنيا، سببا لحصول الشقاء العظيم له في الآخرة .

وقد تضمن هذا المثل القرآني بعض اللطائف التي يحسن ذكرها، ومنها:  

- أن التمتع في هذا الحياة الدنيا، إنما هو لفترة قصيرة محدودة، ثم هو صائر إلى زوال؛ وعلى العاقل أن لا يغتر بما هو زائل وفان، وأن يسعى لتحصيل ما هو دائم وباق .

- أن انقضاء الدنيا سريع ومفاجئ ويكون من غير سابق إنذار، فإن الإنسان لا يدري، متى ينقضي أجله في هذه الحياة، ومتى يصبح في عداد الموتى، بعد أن كان يشكل رقما فوقها؛ وهكذا سنة الحياة، لا تعرف كبيرا ولا صغيرا، ولا غنيا ولا فقيرا، ولا حاكما ولا محكوما، ولا عالما ولا جاهلا، فالكل في قانون الموت سواء، { فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } (الأعراف:34) .  

- في قوله تعالى: { حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت } (يونس:)، بيان  لسبب اغترار كثير من الناس بهذه الحياة الدنيا، حتى تصبح الحياة الدنيا - بمغرياتها ولذاتها وشهواتها - همهم الوحيد؛ فشبه سبحانه الأرض بالعروس التي تزف إلى زوجها ليلة العرس، بعد أن تكون قد تزينت له أجمل زينة، وتهيأت له أفضل ما يكون التهيؤ؛ وهكذا الدنيا تتزين لأهلها وطالبيها غاية التزين؛ بحيث تكون أشد إغراء لأهلها، وأكثر إغواء لطالبيها، فيتهافتون على النيل من زخرفها، ويتسابقون إلى الأخذ من نعيمها ما أمكنهم .     

وبعد: فلا ينبغي للعاقل أن يفهم مما تقدم، أن شريعة الإسلام تزهد المسلم في السعي في هذه الدنيا، وتقلل من شأن إعمارها وبناءها، فليس هذا ما تدل عليه نصوص الشريعة، وليس هذا مرادها، بل على العكس من ذلك؛ إنها تطلب من المسلم أن ينظر إلى هذه الحياة بروح إيجابية فعالة بناءة، بحيث يجعل جهده منصبا على إعمار هذه الأرض بكل ما هو نافع؛ وأن يكون متوازنا في توجهه بين مطالب الدنيا وحاجاتها، وبين تكاليف الآخرة وواجباتها، فلا يجعل الدنيا همه الوحيد، وقبلته التي عنها لا يحيد، بل تحثه على أن يجعل منها وسيلة للحياة الآخرة، لا أن يقف عندها، مغترا بزخرفها وزينتها، بحيث تنسيه الآخرة. ويلخص هذا كله، قوله سبحانه: { وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا } (القصص:77) .

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة