دموع في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم

2 1088

البكاء نعمة عظيمة امتن الله بها على عباده ، قال تعالى : { وأنه هو أضحك وأبكى } ( النجم : 43 ) ، فبه تحصل المواساة للمحزون ، والتسلية للمصاب ، والمتنفس من هموم الحياة ومتاعبها .

ويمثل البكاء مشهدا من مشاهد الإنسانية عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، حين كانت تمر به المواقف المختلفة ، فتهتز لأجلها مشاعره ، وتفيض منها عيناه ، ويخفق معها فؤاده الطاهر .

ودموع النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يكن سببها الحزن والألم فحسب ، ولكن لها دوافع أخرى كالرحمة والشفقة على الآخرين ، والشوق والمحبة ، وفوق ذلك كله : الخوف والخشية من الله سبحانه وتعالى .

فها هي العبرات قد سالت على خد النبي – صلى الله عليه وسلم - شاهدة بتعظيمة ربه وتوقيره لمولاه ، وهيبته من جلاله ، عندما كان يقف بين يديه يناجيه ويبكي ، ويصف أحد الصحابة ذلك المشهد فيقول : " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء – وهو الصوت الذي يصدره الوعاء عند غليانه - " رواه النسائي .

وتروي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها موقفا آخر فتقول : " قام رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ليلة من الليالي فقال : ( يا عائشة ذريني أتعبد لربي ) ، فتطهر ثم قام يصلي ، فلم يزل يبكي حتى بل حجره ، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل لحيته  ، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض ، وجاء بلال رضي الله عنه يؤذنه بالصلاة ، فلما رآه يبكي قال : يا رسول الله ، تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال له : ( أفلا أكون عبدا شكورا ؟ ) " رواه ابن حبان .

وسرعان ما كانت الدموع تتقاطر من عينيه إذا سمع القرآن ، روى لنا ذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال : " قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - :  ( اقرأ علي ) ، قلت : يا رسول الله ، أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ ، فقال : ( نعم ) ، فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } ( النساء : 41 ) فقال : ( حسبك الآن ) ، فالتفت إليه ، فإذا عيناه تذرفان " ، رواه البخاري .

كما بكى النبي – صلى الله عليه وسلم – اعتبارا بمصير الإنسان بعد موته ، فعن البراء بن عازب ضي الله عنه قال : " كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة ، فجلس على شفير القبر – أي طرفه - ، فبكى حتى بل الثرى ، ثم قال : ( يا إخواني لمثل هذا فأعدوا ) رواه ابن ماجة ، وإنما كان بكاؤه عليه الصلاة والسلام بمثل هذه الشدة لوقوفه على أهوال القبور وشدتها ، ولذلك قال في موضع آخر : ( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ، ولبكيتم كثيرا ) متفق عليه.

وبكى النبي – صلى الله عليه وسلم – رحمة بأمته وخوفا عليها من عذاب الله ، كما في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه ، يوم قرأ قول الله عز وجل : { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } ( المائدة : 118 ) ، ثم رفع يديه وقال : ( اللهم أمتي أمتي ) وبكى .

وفي غزوة بدر دمعت عينه  - صلى الله عليه وسلم – خوفا من أن يكون ذلك اللقاء مؤذنا بنهاية المؤمنين وهزيمتهم على يد أعدائهم ، كما جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله : " ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح ) رواه أحمد .

 وفي ذات المعركة بكى النبي – صلى الله عليه وسلم - يوم جاءه العتاب الإلهي بسبب قبوله الفداء من الأسرى ، قال تعالى : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } ( الأنفال : 67 )  حتى أشفق عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه من كثرة بكائه.

ولم تخل حياته – صلى الله عليه وسلم – من فراق قريب أو حبيب ، كمثل أمه آمنة بنت وهب ، وزوجته خديجة رضي الله عنها ، وعمه حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه ، وولده إبراهيم عليه السلام ، أوفراق غيرهم من أصحابه ، فكانت عبراته شاهدة على مدى حزنه ولوعة قلبه .

فعندما قبض إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم – بكى وقال : ( إن العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ) متفق عليه.


ولما أراد النبي – صلى الله عليه وسلم - زيارة قبر أمه بكى بكاء شديدا حتى أبكى من حوله ، ثم قال : ( زوروا القبور فإنها تذكر الموت ) رواه مسلم .

ويوم أرسلت إليه إحدى بناته تخبره أن صبيا لها يوشك أن يموت ، لم يكن موقفه مجرد كلمات توصي بالصبر أو تقدم العزاء ، ولكنها مشاعر إنسانية حركت القلوب وأثارت التساؤل ، خصوصا في اللحظات التي رأى فيها النبي – صلى الله عليه وسلم - الصبي يلفظ أنفاسه الأخيرة ، وكان جوابه عن سر بكائه : ( هذه رحمة جعلها الله ، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء ) رواه مسلم .

ويذكر أنس رضي الله عنه نعي النبي - صلى الله عليه وسلم - لزيد وجعفر وعبد الله بن رواحة رضي الله عنه يوم مؤتة ، حيث قال عليه الصلاة والسلام : ( أخذ الراية زيد فأصيب ، ثم أخذ جعفر فأصيب ، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب - وعيناه تذرفان - حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله ) رواه البخاري .

ومن تلك المواقف النبوية نفهم أن البكاء ليس بالضرورة أن يكون مظهرا من مظاهر النقص ، ولا دليلا على الضعف ، بل قد يكون علامة على صدق الإحساس ويقظة القلب وقوة العاطفة ، بشرط أن يكون هذا البكاء منضبطا بالصبر ، وغير مصحوب بالنياحة ، أو قول ما لا يرضاه الله تعالى .

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة