مفهوم اليُسْر في الدين

1 1152

اليسر مقصد مـن مقـاصـد الـدين الكبـرى، جعـله الله ـ تعالى ـ أساسا لكل ما أمر به ونهى عنه في كتابه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وأمرنا أن نلتزمه في فهمنا للدين والعمل به والدعوة إليه؛ فقال ـ تعالى ـ: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185].

وقال - صلى الله عليه وسلم - : إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره وفي لفظ: إنكم أمة أريد بكم اليسر. أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح.

ولكن ما معنى أن يكون الدين يسرا؟ إن آية اليسر نزلت تعليلا لأمره ـ تعالى ـ بالفطر للمريض والمسافر. ولكن هل الصيام نفسه الـذي وردت بمناسبته قاعـدة التيسير شـيء لا مشقة فيه؟ ماذا لو قال إنسان: لو كان الصيام نصف شهر لكان أيسر، ولو كان أقل من ذلك لكان أكثر يسرا، بل لو لم نؤمر بالصيام لكان اليسر كله؟!

ومــا يقــال عن الصيـام يقــال عــن سائـر ما أمــر الله ـ تعالى ـ به من صلاة وصيام وحج وزكاة وجهاد بالمال والنفس؛ إنها كلها تكاليف فيها شيء من مشقة؟ فلو كان معنى التيسير: أن لا يؤمر النـاس بشـيء فيـه أدنى مشـقة؛ لما كـان هنالك تكليف بصلاة ولا صيـام ولا حـج ولا زكـاة ولا جـهـاد؛ لأن فعـل ما لا مشقة فيه البتة أيسر ـ فيما يبدو لأول وهلة ـ مما في فعله أدنى مشقة.

فما المقصود باليسر إذا؟ معـناه فيـما يـبدو لي: فـعل ما يحقق الغاية بأدنى قدر من المشقة، مثلا: إذا كان لا بد لك من وسيلة للكسب تحفظ لك ماء وجهك وتغنيك عن السؤال وتوفر لك ما تحتاج إليه من طعام ولباس وسكن وزيادة توفر بعضها وتتصدق ببعض؛ فإن خير وسيلة هي عمل يحقق لك كل هذا بأدنى قدر من المشقة. فإذا قال لك الشيطان: لكن عدم الكسب أيسر من أية وسيلة فيها شيء من مشقة، ولذلك فإن الأفضل لك أن لا تعمل إطلاقا.. ستقول له ـ إن كنت عاقلا ـ: هذا صحيح بادئ الرأي أيها الخبيث! لكن انظر ماذا سيترتب على البطالة، إنها ستجعل حياتي أعسر نفسيا وربما جسديا؛ فعملي رغم ما فيه من مشـقة هـو فـي النهـاية أيســر من البطـالة الـتي يـبدو أنه لا مشقة فيها.

وكذلك الأمر بالنسبة للدين؛ فما يأمرنا الله ـ تعالى ـ به هو أعمال تحقق غايات ضرورية لنا، غايات لا تكون لنا سعادة إلا بها، ولكنها باعتبارها أعمالا فلا بد أن تتضمن شيئا من الجهد والمشقة، لكن الله ـ تعالى ـ الخالق لكل شيء، المحيط علما بالوسائل والغايات، الرحيم بعباده، يختار لنا أسمى الغايات، ثم يدلنا إلى أحسن الوسائل التي تحققها بأدنى مشقة، كما قال الله ـ تعالى ـ في أول آية علل بها أمره بالصيام: ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) (البقرة: 183).

فالغاية المطلوب الوصول إليها هي التقوى، والوسيلة إليها التي لا وسيـلة غيرها لتحقـيق هذا النوع من التقوى هو صيام شهر رمضان.

وعليه؛ فيمكن تقسيم الأعمال بالنسبة لغاياتها ووسائلها إلى أربعة أنواع:

أحسنها: غاية حسنة ووسيلة ميسرة، وهذا هو الذي اختاره الله ـ تعالى ـ لعباده.

وأسوؤها: غاية سيئة ووسيلة شاقة، من أمثلتها: محاربة الكفار للمسلمين، وبذلهم أموالهم وأنفسهم في سبيل ذلك. ومنها: ما يتظاهر به المنافق من صلاة وصوم وحج وزكاة وربما جهاد.

في مثل هذا العمل قالت العرب: لحم جمل غث، على رأس جبل وعر، لا سمين فيشتهى، ولا سهل فيرتقى.

وأقل منه سوءا: غاية سيئة ووسيلة سهلة.

وأحسن من هذا: غاية حسنة ووسيلة عسرة. وهذا يشمل كل ما خالف السنة من أنواع الأعمال الصالحة.

عن ابن عباس عن جويرية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -  خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال: ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟ قالت: نعم! قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته. (صحيح مسلم).

فالحديث يدل على أنه بالاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -  في عبادته يحصل الإنسان بالعمل القليل في الوقت القصير على الأجر الكبير. فيا خسارة الذين يستبدلون بأذكار النبي - صلى الله عليه وسلم -  أذكارا اخترعوها أو اخترعها لهم سادتهم، إنها في أحسن أحوالها جهد كبير وأجر قليل. ولذلك كان عدد من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يقول: اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة. أما إذا كانت تتضمن شركا أو شيئا حراما فإنها قد تكون من النوع الذي قال الله ـ تعالى ـ فيه: {هل أتاك حديث الغاشية * وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية} )الغاشية: 1 – 4.

وقوله ـ تعالى ـ(وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) (الفرقان 23). وإذا؛ فالدين كله يسر بهذا المعنى الذي ذكرناه. قال سماحة الشيخ صالح بن حميد في خطبة له جامعة عن اليسر(1): والتيسير مقصد من مقاصد هذا الدين، وصفة عامة للشريعة في أحكامها وعقائدها، وأخلاقها ومعاملاتها، وأصولها وفروعها؛ فربنا بمنه وكرمه لم يكلف عباده بالمشاق، ولم يردعنا كالناس، بل أنزل دينه على قصد الرفق والتيسير.

شريعة الله حنيفية في التوحيد، سمحة في العمل، فلله الحمد والمنة.. {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185]، {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا} [النساء: 28]، {هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم الـمسلمين} (الحج: 78).

والتيسير له معــان أخــرى، مـنها: أن الله ـ تعــالى ـ لا يكلـف الـناس بما يطيـقون، بـل بمـا هـو في وسعهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وتأمل قوله ـ عز وجل ـ ) : إلا وسعها (، كيف تجد تحته أنهم في سعة ومنحة من تكالـيفه، لا في ضـيق وحرج ومشـقة؛ فـإن الوسـع يقتـضي ذلـك؛ فاقـتضــت الآية أن ما كلفهم به من غير عسر لهم ولا ضيق ولا حرج، بخلاف ما يقدر عليه الشـخص؛ فـإنـه قـد يكون مقـدورا له ولكن فيه ضيق وحرج عليه. وأما وسعه الذي هو منه في سعة فهو دون مـدى الطـاقة والمجـهود، بل لنفسه فيه مجال ومتسع). (الفتاوى: ج14، التفسير الجزء الأول، ص 137ـ( 138 .

ومنها: أن العمل وإن كان فيه مشقة إلا أن الله ـ تعالى ـ يجعله سهلا بطرائق كثيرة، منها: أنه يغير طبيعته الشاقة فيجعلها سهلة، كما ذكر الشيخ بالنسبة للقرآن الكريم ذكرا وتدبرا وفهما.

ومنها: أن يجد المؤمن في العمل لذة روحية، حتى إنه ليكاد ينسى ما فيه من مشقة.

وإذا حلت الهداية قلبا      نشطت للعبادة الأعضاء

ومنـها: أن يريـد المؤمن تحقيق غاية يحبها لكنه يعلم أنـها لا تتـحـقق إلا بعبـادة معـينة فيحرص علـيها طـلـبا لتـلك الغـاية المحبـوبة فتهون عليه؛ كما في قوله ـ تعالى ـ عن الصلاة:

( واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الـخاشعين * الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون) [البقرة: 45 - 46]. وقوله ـ تعالى ـ: {اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والـمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون} [العنكبوت: 45].

وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  إذا صلى قام حتى تفطر رجلاه قالـت عائشة: يا رسـول الله! أتصـنع هـذا وقـد غـفـر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر! فقال: يا عائشة! أفلا أكون عبدا شكورا (أخرجه مسلم) .

فحرصه - صلى الله عليه وسلم -  على شكر ربه ـ وهو شعور له لذة لا تعدلها لذة ـ هو الذي يسر له هذا العمل الذي يبدو شاقا.

ومـنها: أن الله ـ تعـالى ـ قـد يزيل مشقات العمـل حتـى لا يكاد يبقى منها شيء؛ فأشق شيء على الإنسان أن يقتل لكن رسـول الله - صلى الله عليه وسلم -  يقـول: ما يـجد الشهيد من مس القتال إلا كما يجد أحـدكم مـن مس القرصة الترمذي.

وعليه؛ فإذا كان الله ـ تعالى ـ قد تكفل بتسهيل العمل بما أنزل من أمر ونهي؛ فكذلك يجب أن نفهمه ـ نحن ـ في ممارستنا له. ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -  في الحديث الصحيح مشيرا إلى هذه الممارسة: إن هذا الدين متين؛ فأوغلوا فيه برفق. وقال: إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره، فعبارة خير دينكم هي إشارة إلى الدين الممارس لا الذي أنزله الله ـ تعالى ـ، فإن ذلك ميسر في أصله لا يحتاج إلى أن ييسره إنسان.

ومن أحسن ما قرأت تطبيقا لهذه الأحاديث ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه قال: عن الأزرق بن قيس قال: (كنا على شاطئ نهر بالأهواز قد نضب عنه الماء، فجاء أبو برزة الأسلمي على فرس فصلى وخلى فرسه، فانطلقت الفرس، فترك صلاته وتبعها حتى أدركها، فأخذها، ثم جاء فقضى صلاته، وفينا رجل له رأي، فأقبل يقول: انظروا إلى هذا الشيخ، ترك صلاته من أجل فرس، فأقبل فقال: ما عنفني أحد منذ فارقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال: إن منزلي متراخ، فلو صليت وتركت لم آت أهلي إلى الليل، وذكر أنه صحب النبي - صلى الله عليه وسلم -  فرأى من تيسيره ).

لكن فعل (أبي برزة) يختلف عما يفعله بعض الناس الآن في اختيارهم لما يختارون من الأقوال التي اختلف فيها العلماء. يقول أحدهم لنفسه: ما دام الدين يسرا فإنني سأختار ما أراه أسهل علي أو على الناس، ثم يبدأ ينظر في الأقوال بهذا المعيار فيقول ـ مثلا ـ: قول الحنفية هذا صعب، لكن قول الحنابلة أصعب، أما قول المالكية فسهل، وأسهل منه قول الشافعية، وأسهل من هذا كله قول العالم الفلاني الذي خالفهم جميعا، فأنا آخذ به.

إن المنهج الصحيح هو أن يقول الإنسان لنفسه: ما دام دين الله كله يسرا فسأختار ما أراه بأدلته أقرب إلى الشرع؛ لأن الأقرب إلى الشرع هو الأقرب لتحقيق الغاية بأدني مشقة.

قد يقول قائل : أليس هذا الذي انتقدت منهجه متأسيا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -  في أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما؟ يقال له: نعم إذا خير كما في قوله ـ تعالى ـ: (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) .

والتخيير معناه أن كل واحد من الأمور المخير فيها يؤدي الغرض المطلوب، لكن بعضها قد يكون أيسر على الإنسان من بعض، فيختاره. لكن ما نحن في صدده لا علاقة له بالتخيير، بل المطلوب فيه معرفة حكم الله ـ تعالى ـ في الأمر الذي اختلفــت فيه الأقـوال أو الاجتهـادات؛ لأنـها إذا تناقـضت فلا يمكن أن يكون كل واحد منها صحيحا مؤديا الغرض. نعم؛ إذا استوت الأدلة ولم يمكن ترجيح بعض الأقوال على بعض، فإن الأخذ بالأيسر يكون منهجا صحيحا.

لكن رغم هذا فقد يحدث التعــسير في الــدين شــرعا أو قدرا، ويكون عقابا من الله ـ تعالى ـ لبعض الناس. مثال التعـسير شـرعا: مـا قال الله ـ تعالى ـ فيه: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا} (النساء: 160 ).

وأما التعسير القدري فيكون بسبب سوء فهم بعض النـاس للـديـن وإلـزامهـم أنـفسـهم بمـا لـم يلـزمهم به الـله ـ تعالى ـ من أنواع العنت. وهذا هو الذي يحدث لأناس من هذه الأمة التي اختار الله لها الحنيـفية السمـحة والتـي قال الله ـ تعالى ـ عن رسولها : (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالـمعروف وينهاهم عن الـمنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الـخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم الـمفلحون ) (الأعراف: 157).

هذا العنت القدري العقابي هو الذي يدعو المسلم ربه أن يعيذه منه: {ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} البقرة 286.

ــــــــ

أ. د. جعفر شيخ إدريس ( البيان 235).

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة