غزوة بدر...وقضية الأسرى

0 2269

انتهت معركة بدر ، ولا تزال الفئة المؤمنة تعيش أجمل لحظات انتصارها ، وكل فرد من أفرادها تتراءى له مشاهد التعذيب والاستضعاف التي مارسها طغاة قريش أيام مكة ، ثم ينظر إلى جثث المشركين وقد تناثرت هنا وهناك ، فتهيج في نفسه مشاعر لا توصف من الفرحة والبهجة ، والشكر لله عز وجل الذي أتم النصر ، وأعلى الحق ، وأزهق الباطل .

في تلك اللحظات جاء الأمر النبوي بجمع جثث صناديد قريش ، ليعلم الجميع كيف تكون عاقبة الكفر وأهله ، وليغدو مصرعهم عبرة للأجيال ، فانطلق الصحابة ينفذون أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دون إبطاء ، وكان من بين هؤلاء عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ، الذي قام يتفحص وجوه الجثث من حوله ، فإذا به يصل إلى أبي جهل وهو في الرمق الأخير ، فانطلق إليه مسرعا ، فقال له : أأنت أبو جهل ؟ ، فرد عليه : وهل فوق رجل قتلتموه أو رجل قتله قومه ؟ ، فقال ابن مسعود : أخزاك الله يا عدو الله ، فنظر أبو جهل إلى ابن مسعود رضي الله وهو جاثم على صدره ، فقال له : لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا ، فقطع ابن مسعود رأسه فجاء به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – يبشره بمقتل عدوه اللدود .

وتمكن المسلمون من جمع جثث المشركين التي بلغت أربعا وعشرين جثة ، فأمر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن تسحب سحبا وتلقى في أحد الآبار المهجورة في المنطقة ، وكان من بين أولئك القتلى والد أبي حذيفة رضي الله عنه ، فلمح النبي – صلى الله عليه وسلم – التأثر في وجه ولده فقال له : ( يا أبا حذيفة ، والله لكأنه ساءك ما كان في أبيك ) ، فقال : " والله يا رسول الله ما شككت في الله وفي رسول الله ، ولكن إن كان – أي والده - حليما سديدا ذا رأي ، فكنت أرجو أن لا يموت حتى يهديه الله عز وجل إلى الإسلام ، فلما رأيت أن قد فات ذلك ، ووقع حيث وقع أحزنني ذلك ، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير " ، رواه الحاكم .

وظل النبي – صلى الله عليه وسلم – في ساحة المعركة ثلاثة أيام ، وصارت سنة في معاركه كلها ، حتى إذا كان اليوم الثالث أمر بتجهيز راحلته ثم انطلق إلى موضع دفن المشركين ، وجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم : ( يا فلان بن فلان ، ويا فلان بن فلان ، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله ، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ) ، فاستغرب الصحابة أن ينادي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -  أجسادا لا أرواح لها ، فأجابهم بقوله : ( والذي نفس محمد بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ) رواه البخاري .

وبعد الانتهاء من المعركة برزت مشكلة جديدة لم يتعامل المسلمون معها من قبل ، ألا وهي كيفية التصرف في الغنائم التي غنمها المسلمون في المعركة ، هل يعطونها للطائفة التي قامت بجمعها وحراستها ؟ ، أم يعطونها للذين قاموا بمطاردة فلول المشركين ؟ ، أم أن الذين قاموا بحراسة النبي – صلى الله عليه سلم – أثناء وبعد المعركة هم أحق الناس بتلك الغنائم ؟ ، ونزل القرآن الكريم مجيبا عن تلك التساؤلات : { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } ( الأنفال : 1 ) ، { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } ( الأنفال : 41 ) ، رواه أحمد ، فقسم النبي – صلى الله عليه وسلم – الغنيمة بينهم بالتساوي .

ولم ينس النبي – صلى الله عليه وسلم – نصيب أناس تخلفوا عن المعركة لظروف خاصة ، كان منهم عثمان بن عفان رضي الله عنه ، حيث كان يقوم برعاية شؤون زوجته رقية رضي الله عنها في مرضها ، وكان منهم أبو لبابة رضي الله عنه الذي أرجعه النبي – صلى الله عليه وسلم – عند خروجه للقتال ، وأوكل إليه أمر المدينة ، ومنهم والحارث بن حاطب رضي الله عنه الذي أرسله النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى بني عمرو بن عوف في مهمة خاصة .

ثم جاءت القضية الثانية ، وهي كيفية التعامل مع الأسرى ، فقد استشار النبي – صلى الله عليه وسلم – صحابته في شأنهم ، فكان رأي أبي بكر رضي الله عنه أخذ الفدية من الكفار ليتقوى المسلمون بها ، ولعل في ترك قتلهم فرصة للمراجعة والتفكير بالإسلام ، بينما أشار عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ رضي الله عنهما بقتلهم ، لأنهم أئمة الكفر ، وفي التخلص منهم ضربة قوية لأهل مكة ، بل قال عبدالله بن رواحة رضي الله عنه : " يا رسول الله ، انظر واديا كثير الحطب فأدخلهم فيه ، ثم أضرمه عليهم نارا " .

ومال النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى رأي أبي بكر رضي الله عنه ، فحسم الخلاف واختار الفدية ، لكن الله عز وجل عاتب نبيه عتابا شديدا على هذا الاختيار ، وذلك في قوله : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم ، لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ، فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم } ( الأنفال : 67-69 ) ، والعتاب إنما جاء لقبول النبي – صلى الله عليه وسلم – للفداء في وقت لم تكن فيه الغلبة والظهور لأهل الحق ، مما يكون سببا في ضعف المسلمين ومعاودة خصومهم للقتال ، وهذا لا يصب في مصلحة المسلمين .

وقد تأثر النبي – صلى الله عليه وسلم -  من عتاب ربه له غاية التأثر ، وتذكر كتب السيرة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم – و أبي بكر رضي الله عنه وهما يبكيان ، فقال : يا رسول الله ، أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك ؟ ، فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما ، فقال له : ( أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة - شجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم - ) رواه مسلم .

ثم أذن الله سبحانه وتعالى بقبول الفداء ، فجعل الأسرى يفتدون أنفسهم بما يملكون من المال ، فمنهم من كان يدفع أربعة آلاف درهم ، ومنهم من كان يدفع أكثر من ذلك ، أما الذين لم يكونوا يملكون شيئا فكان فداؤهم تعليم أولاد المسلمين الكتابة .

وأرادت زينب بنت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – افتداء زوجها   أبي العاص بقلادة لها كانت عند خديجة رضي الله عنها ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة ، وقال لأصحابه : ( إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها ) فوافقوا على ذلك ، رواه أبو داود .

وقد حاول من كان حاضرا أن يشفع في العباس عم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في ترك أخذ الفداء منه ، وقالوا : ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه ، فقال لهم : ( والله لا تذرون منه درهما ) رواه البخاري .

وأوصى النبي – صلى الله عليه وسلم – بمعاملة الأسرى معاملة حسنة ، وقال : ( استوصوا بالأسارى خيرا ) ، فامتثل الصحابة لذلك وضربوا أروع الأمثلة ، يقول أخ لمصعب بن عمير رضي الله عنه : " ..وكنت في نفر من الأنصار ، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم أكلوا التمر وأطعموني البر ؛ لوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم  - " رواه الطبراني .

وقد تركت هذه المعاملة الحسنة أثرها في قلوبهم ، فأسلم كثير منهم في أوقات لاحقة ، مثل السائب بن عبيد   وأبو عزيز رضي الله عنهما ، وعاد أولئك الأسرى إلى مكة وكل حديثهم عن كرم أخلاق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه .

إلا أن ذلك لم يمنع النبي – صلى الله عليه وسلم – من قتل من اشتد أذاه للمسلمين كأمثال عقبة بن أبي معيط ، الذي قتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، والنضر بن الحارث الذي كان من أكبر المحرضين على قتال المسلمين .

وعاد الجيش الإسلامي المنتصر إلى المدينة ، يسبقهم زيد بن حارثة رضي الله عنه وهو راكب ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ليبشر الناس ، وانطلقت الجموع إلى نواحي المدينة يستقبلون إخوانهم العائدين ، وكان من بين تلك الجموع أم حارثة رضي الله عنها التي بلغها مقتل ولدها الغلام ، فجاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالت : " يا رسول الله ، قد عرفت منزلة حارثة مني ، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب ، وإن تكن الأخرى – أي النار - ترى ما أصنع " ، فقال لها : ( ويحك ، أو جنة واحدة هي ؟ ، إنها جنان كثيرة ، وإنه في جنة الفردوس ) رواه البخاري .

أما المنافقون فلم يشاركوا المسلمين فرحتهم ، لأن انتصار المسلمين كان مؤذنا بنهاية أحلامهم في إعادة السيطرة على المدينة ، فاتخذوا سياسة النفاق وإدارة المؤامرات في الخفاء يرأسهم في ذلك عبدالله بن أبي بن سلول الذي قال : " هذا أمر قد توجه – أي استقر - فبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام " رواه البخاري .

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة