وفاة عبدالله بن أبي بن سلول

2 2386

في شهر شوال من السنة التاسعة للهجرة ، وبعد آخر غزوات رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، وارى التراب جثمان رجل كان من أشد الناس خصومة للإسلام وأهله ، وشخصية كانت مصدر قلق ومنبع شر للمجتمع الإسلامي بأسره ، ذلك هو زعيم النفاق ورافع لوائه عبدالله بن أبي بن سلول .

هذه الشخصية هي صاحبة الامتياز في إخراج ظاهرة النفاق إلى الوجود ، فلم يكن الناس  قبل ذلك إلا مؤمنا صادق الإيمان ، أو كافرا مجاهرا بجحوده ، فأضاف ابن سلول طريقا ثالثا أخطر من صريح الشرك ، وهو الكفر الخفي ؛ ليعمل على هدم الإسلام من داخله ، ويقضي على تلاحم أبنائه ، وتماسك أفراده .

وجذور النفاق عميقة في نفس ابن سلول ، وكانت البداية قبل هجرة النبي – صلى الله عليه وسلم – ، يوم كانت المدينة تعيش قتالا شرسا بين الأوس والخزرج ما إن تهدأ ثائرتها قليلا حتى تعود للاشتعال مرة أخرى ، وانتهى الصراع على اتفاق بين الفريقين يقضي بنبذ الخلاف وتنصيب ابن سلول حاكما على المدينة .

ووئدت هذه الفكرة بدخول الإسلام إلى أرض يثرب ، وورود الناس حياض الشريعة ، واجتماعهم حول راية النبي – صلى الله عليه وسلم - ، فصارت نظرة ابن سلول لهذا الدين تقوم على أساس أنه قد حرمه من الملك والسلطان ، وبذلك كانت مصالحه الذاتية وأهواؤه الشخصية وراء امتناعه عن الإخلاص في إيمانه والصدق في إسلامه .

ومنذ ذلك اليوم نصب ابن سلول العداوة الخفية للمسلمين ، مدفوعا بالحقد الذي تنامى في أحشائه ، والخبث الذي طبعت عليه نفسه ، فكرس حياته لتقويض دعائم الإسلام ودولته ، وانطلق ينفث سمومه للتفريق بين المسلمين ، وقد تفنن في صنع الافتراءات واختلاق الفتن ، وشن الحرب النفسية ، وزرع بذور الاختلاف ، في الضوء حينا ، وتحت جنح الظلام أحيانا .

وإطلالة سريعة على تاريخ المدينة تكفي للوقوف على جانب من الأراجيف التي أنشأها ، والمؤامرات التي حاكها ، خلال سنينه السبع التي قضاها في الإسلام ، فيوم أحد انسحب هذا المنافق بثلاثمائة من أصحابه قبيل اللقاء بالعدو ، وقد علل ذلك بقوله عن النبي – صلى الله عليه وسلم - : " أطاعهم فخرج وعصاني ، والله ما ندري علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس ؟ " ذكره الطبري في تاريخه .

وبعد انتصار المسلمين على يهود بني قينقاع سارع ابن سلول في الشفاعة لحلفائه كيلا يقتلهم رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فجاء إليه وقال : " يا محمد ، أحسن في موالي " ، وكرر ذلك على النبي – صلى الله عليه وسلم – وأمسكه من ثيابه حتى ظهر الغضب في وجه النبي عليه الصلاة والسلام ، وقد علل إصراره على هذا الموقف بقوله : " قد منعوني من الأحمر والأسود ، إني امرؤ أخشى الدوائر " ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( هم لك ) ، رواه ابن إسحاق في سيرته .

وفي غزوة بني النضير قام عبدالله بن أبي بن سلول بتحريض حلفائه من اليهود على قتال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعدم الاستسلام له ، ووعدهم بالنصرة والمساعدة ، فأعلنوا الحرب ، وانتهى بهم الأمر إلى الجلاء من المدينة.

وفي غزوة بني المصطلق ، استطاع ابن سلول - بدهاء ومكر شديدين - أن يحيك مؤامرة دنيئة للطعن في عرض خير نساء النبي – صلى الله عليه وسلم - عائشة رضي الله عنها ، وظل المسلمون يكتوون بنار هذه الفتنة شهرا كاملا حتى نزلت الآيات الكريمات من سورة النور لتفصل في القضية .

ويوم تبوك كان ابن سلول العقل المدبر لفكرة " مسجد الضرار " ، وهو مسجد أسسه المنافقون ليكون مقرهم السري الذي تصدر منه الفتن وتصنع فيه الأراجيف لإثارة البلبة بين المسلمين .

وعلى الرغم من المحاولات العديدة التي حاول فيها ابن سلول كتمان غيظه وبغضه لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومن معه من المؤمنين ، إلا أن فلتات لسانه كانت تشير إلى حقيقة مشاعره الدنيئة ، كقوله لرسول الله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين : " إليك عني ، والله لقد آذاني نتن حمارك " ، وقوله لمن حوله : " لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا "  ، وقوله تعريضا بالنبي – صلى الله عليه وسلم : " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " وكل ذلك مذكور في الصحيحين .

ومع كل فتنة كان يثيرها ، ونار كان يشعلها ، تنزل الآيات تباعا لتفضح مسلكه وتبين حقيقته ، كقوله تعالى : { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا } ( آل عمران : 186 ) ، وقوله تعالى : { فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة } ( المائدة : 52 ) ، وقوله عز وجل : { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } ( المنافقون : 1 ) ، وغير ذلك من الآيات .

وقد يتساءل البعض عن موقف النبي – صلى الله عليه وسلم – من ابن سلول ، كيف تحمله طيلة هذه السنوات ولم يأمر بقتله ؟ ، والجواب أن النبي – صلى الله عليه وسلم – خشي أن يشاع بين القبائل أن محمدا يقتل أصحابه ، حيث إن العرب في أنحاء الجزيرة لم يكونوا يدركون تفاصيل المؤامرات التي تحدث في المدينة ، ولن يتمكنوا من استيعاب مبررات العقوبات التي سيتخذها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في حق ذلك المنافق ، والصورة التي ستصلهم حتما صورة مشوهة ، حاصلها : أن سيدا من سادات المدينة ووجهائها اعتنق الإسلام ، ثم جاء الأمر بقتله ، ولا شك أن هذه الصورة المنقوصة ستشكل حائلا بينهم وبين اعتناق هذا الدين .

وثمة سبب آخر لا يقل أهمية عن سابقه ، وهو أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان حريصا على وحدة الصف الداخلي ، خصوصا في المراحل الأولى من قدومه إلى المدينة ، في وقت كانت بذرة الإسلام في نفوس الأنصار لا تزال غضة طرية ، فاختار النبي – صلى الله عليه وسلم – أسلوب المداراة والصبر على أذى ابن سلول لتظهر حقيقة الرجل من خلال تصرفاته ومواقفه ، وقد أثمر هذا الأسلوب بالفعل ، حيث وجد ابن سلول العتاب والبغض في كل موقف من مواقفه ، وكان ذلك على يد من كانوا يرغبون في تتويجه ملكا عليهم في السابق ، فنبذه أهله وأقرب الناس إليه .

ولا أدل على ذلك من موقف ولده عبدالله بن عبدالله بن أبي رضي الله عنه ، والذي كان من خيرة الصحابة ، وقد قال يوما للنبي – صلى الله عليه وسلم - : " يا رسول الله ،  والذي أكرمك ، لئن شئت لأتيتك برأسه " ، فقال له : ( لا ، ولكن بر أباك وأحسن صحبته ) رواه البزار .

وتدور عجلة الأيام ، والمسلمون في معاناتهم من أذى النفاق ومكائده ، حتى حانت اللحظات الأخيرة من حياة ابن سلول ، ففي أواخر شهر شعبان يسقط على فراشه ويقاسي آلام المرض وشدة الموت ، والنبي – صلى الله عليه وسلم – لا يكف عن زيارته والسؤال عن حاله بالرغم من عداوته له .

ولعل النبي – صلى الله عليه وسلم – أراد بذلك أن يتألف قلب هذا المنافق ، لعله يلين إلى ذكر الله ، والقلوب بين أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ، إضافة إلى كون ذلك فرصة فاعلة لدعوة أتباعه وأوليائه .

 وتروي لنا كتب السيرة تفاصيل اليوم الأخير من حياة ابن سلول ، فقد دخل عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – يزوره ، فطلب ابن سلول من النبي عليه الصلاة والسلام أن يعطيه ثوبه ليكون كفنا له ، وإنما فعل ذلك ليدفع به العار عن ولده وعشيرته بعد موته – كما قال الإمام ابن حجر - ، ولم يكن من عادة النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يرد سائلا أبدا ، فأعطاه قميصه ، كرما منه وفضلا ، و مكافأة له لما كان منه يوم بدر ، فقد استعار النبي – صلى الله عليه وسلم – من ابن سلول قميصه يوم بدر ليعطيه عمه العباس رضي الله عنه ، وقد كان العباس طويلا فلم يكن يناسبه إلا قميص ابن سلول .

وجاء عبدالله بن عبدالله بن أبي رضي الله عنه إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال : " يا رسول الله ، أعطني قميصك أكفنه فيه ، وصل عليه ، واستغفر له " ، فأعطاه النبي عليه الصلاة والسلام قميصه ، وقام ليصلي عليه ، فلما سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك أسرع إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وقال له : " أليس الله نهاك أن تصلي على المنافقين ؟ " ، فقال له : ( إني خيرت فاخترت ، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها ) يعني قوله تعالى : { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } ( التوبة : 80) فقد جاءت الآية بالتخيير بين الاستغفار وعدمه ، فلما صلى عليه نزلت الآية الأخرى وهي قوله تعالى : { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره   إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون } ( التوبة : 84 ) .

وبموت عبدالله بن أبي بن سلول انحسرت حركة النفاق بشكل كبير ، وتراجع بعض أفرادها عن ضلالهم ، في حين اختار البعض الآخر البقاء على الكفر الذي يضمرونه ، والنفاق الذي يظهرونه ، لا يعرفهم سوى حذيفة بن اليمان صاحب سر رسول الله – صلى الله عليه وسلم - .

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة