كبت الله الكافر وأخدمَ وليدةً

1 1737

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( بينما إبراهيم عليه السلام ذات يوم و سارة ، إذ أتى على جبار من الجبابرة ، فقيل له : إن ها هنا رجلا معه امرأة من أحسن الناس ، فأرسل إليه ، فسأله عنها فقال : من هذه ؟ فقال له : أختي ، فأتى سارة فقال : يا سارة ، ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك ، وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي ، فلا تكذبيني ، فأرسل إليها ، فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده ، فأخذ ، فقال : ادعي الله ولا أضرك ، فدعت الله فأطلق ، ثم تناولها الثانية فأخذ مثلها أو أشد ، فقال : ادعي الله لي ولا أضرك ، فدعت فأطلق ، فدعا بعض حجبته فقال : إنكم لم تأتوني بإنسان ، إنما أتيتموني بشيطان ، فأخدمها هاجر ، فأتته - وهو يصلي - ، فأومأ بيده : مهيا ، قالت : رد الله كيد الكافر - أو الفاجر - في نحره ، وأخدم هاجر ) رواه البخاري .

وفي رواية أخرى للحديث : ( لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات ، ثنتين منهن في ذات الله عز وجل ، قوله : { إني سقيم } ، وقوله : { بل فعله كبيرهم هذا } ، وبينما هاجر إبراهيم عليه السلام بسارة ، دخل بها قرية فيها ملك من الملوك أو جبار من الجبابرة ، فقيل : دخل إبراهيم بامرأة هي من أحسن النساء ، فأرسل إليه أن يا إبراهيم ، من هذه التي معك ؟ ، قال : أختي ،  ثم رجع إليها فقال : لا تكذبي حديثي ؛ فإني أخبرتهم أنك أختي ، والله ما على الأرض مؤمن غيري وغيرك ، فأرسل بها إليه ، فقام إليها ، فقامت توضأ وتصلي فقالت : اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي ، فلا تسلط علي الكافر ، فغط حتى ركض برجله ، فقالت : اللهم إن يمت يقال هي قتلته ، فأرسل ، ثم قام إليها فقامت توضأ تصلي وتقول : اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي ، فلا تسلط علي هذا الكافر ، فغط حتى ركض برجله ، فقالت : اللهم إن يمت يقال هي قتلته ، فأرسل في الثانية أو في الثالثة فقال : والله ما أرسلتم إلي إلا شيطانا ،  أرجعوها إلى إبراهيم وأعطوها هاجر ، فرجعت إلى إبراهيم عليه السلام فقالت : أشعرت أن الله كبت الكافر ، وأخدم وليدة ؟ ) رواه البخاري .

معاني المفردات

فأخذ : يعني قبضت يده قبضة شديدة

فأطلق : عادت يده إلى طبيعتها

فأخدمها هاجر : وهبها لها لتخدمها

مهيا : أي ما الخبر ؟

كبت عدوه : أي رده خاسئا

فغط : أي أصيب باختناق

فأرسل : أي رجع إلى حالته الأولى

وأخدم وليدة : أي وهبني خادمة

تفاصيل القصة

منذ فجر التاريخ كان طريق الأنبياء عليهم السلام محفوفا بالمتاعب ، وحياتهم مليئة بأصناف البلاء التي تتوالى عليهم المرة تلو الأخرى ، وتلك سنة الله في أنبيائه .

وكان لنبي الله إبراهيم نصيب وافر من ذلك ، فقد لقي في حياته ألوانا من الأذى النفسي والجسدي ، في نفسه وأهله ، ناهيك عن فراق الأوطان ، ومقابلة قومه لدعوته بالصد والاستهزاء . 

ومع مشهد من مشاهد الابتلاء التي عايشها إبراهيم عليه السلام ، مشهد يرسم لنا على وجه الدقة نصرة الله لأوليائه على أعدائه ، وكيف يحميهم من محاولات المكر بهم ، مصداقا لقوله تعالى : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } ( غافر : 51).

فبعد أن أفرغ إبراهيم جهده في دعوة قومه بكافة الوسائل ، وما قابلوه من محاولة قتله والتخلص منه ، كان من الضرورة أن يبحث له عن أرض أخرى يتمكن فيها من عبادة الله بحرية أكبر ، ويمارس واجبه الدعوي مع أقوام آخرين .

وانتهى المسير بإبراهيم عليه السلام إلى أرض مصر مصطحبا معه زوجته سارة عليهما السلام ، ومع مضي الوقت بدأ الناس يسمعون به وبزوجته ، وكانت سارة عليها السلام على قدر عال من الجمال قل أن يوجد له نظير ، وتناقل الناس أخبارها حتى وصل ذكرها إلى ملكهم ، وكان طاغية من الطغاة الذين لا يتورعون عن سفك الدماء  لأتفه الأسباب .

عندها أرسل الملك إلى إبراهيم عليه السلام ليقابله ويسأله عن سارة ، فقال له : إنها أختي - وهو يقصد أخوة الإسلام - ، والسبب في ذلك أن العادة قد جرت عند ذلك الملك أن يتعرض للنساء المتزوجات دون الأبكار ، ففطن إبراهيم عليه السلام لتلك الحقيقة فادعى أنها أخته ليحميها من السوء الذي يراد بها ، لكن الملك كان مصرا على رؤية سارة عليها السلام فطلب من نبي الله إبراهيم أن يعود إليه بها.

وشعر إبراهيم عليه السلام بخطورة الموقف ، فعاد إلى زوجته مسرعا وأخبرها بما جرى بينه وبين الملك ، وأوصاها أن تكتم حقيقة أمرها ، حتى يتمكنا من النجاة من هذه المحنة العصيبة .

وإن بلاء بهذا القدر لا يكشفه إلا مجيب المضطرين ومغيث المكروبين ، فما كان من إبراهيم عليه السلام إلا أن استغاث بربه وفزع إلى مولاه ، سائلا أن يحفظ عليه زوجته من كيد الملك.

ودخلت سارة عليها السلام على الملك متطهرة ولسانها يلهج بالدعاء ألا يسلط عليها أحدا ، ولما قام الملك إليها وأراد النيل منها ، قبض الله يده عنها ، وشعر باختناق حتى جعل يركض برجله كالمصروع ، وفي غمرة آلامه طلب منها أن تدعو الله له أن يزول عنه البلاء ، ووعدها ألا يتعرض لها ، فدعت الله أن يكشف عنه حتى لا تتهم بقتله .

وعلى الرغم من الوعود التي قطعها الملك على نفسه إلا أنه حاول النيل منها ثلاث مرات ، وفي كل مرة يصيبه ذلك الانقباض والاختناق ، حتى يأس من الوصول إليها ، وعلم أنها محفوظة بحفظ الله ، فأطلق سراحها وأهدى لها خادمة هي هاجر عليها السلام ، ولما خرجت من عنده عاتب أعوانه قائلا لهم : " إنكم لم تأتوني بإنسان ، إنما أتيتموني بشيطان " وذلك لظنه أن ما أصابه من الصرع من أعمال الجن وتصرفاتهم .

وانطلقت سارة عليها السلام مسرعة إلى زوجها لتبشره بنجاتها وسلامتها ، فدخلت عليه وهو قائم يصلي ، فسألها عن الخبر ، فقالت له : "  رد الله كيد الكافر - أو الفاجر - في نحره " .

ذلك عرض موجز لأحداث هذه القصة ، ولنا وقفات مهمة حول بعض ما جاء في سياق الحديث :

وقفات مع القصة

أولى الوقفات مع قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : ( لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات ) ، فقد أطلق عليه الصلاة والسلام على كلام إبراهيم عليه السلام وصف الكذب ، ومن المعلوم امتناع وقوع الكذب من الأنبياء حتى يثق الناس في قولهم ، فكيف يتصور صدور الكذب من نبي بمكانة إبراهيم عليه السلام ؟ .

والجواب على ذلك أن إبراهيم عليه السلام استخدم ما يسمى بالمعاريض أو التورية لدفع مفسدة متحققة ، والمقصود بالتعريض  أن يكون للكلمة معنيان مختلفان أحدهما ظاهر ، فيفهم السامع المعنى الظاهر ، بينما يقصد المتحدث المعنى الآخر ، فيكون الكلام هنا كذبا بالنسبة للسامع باعتبار أنه يخالف الواقع ، وصدقا بالنسبة للمتحدث لأنه يقصد المعنى المطابق للواقع ، ولذلك إذا رجعنا إلى المواطن الثلاثة التي أخبر بها النبي – صلى الله عليه وسلم – عن إبراهيم عليه السلام لوجدنا أنها تدخل في هذا الباب ، فقوله عليه السلام لقومه : { إني سقيم } تعني أنه سيكون كذلك في المستقبل ، واسم الفاعل يستعمل بمعنى المستقبل كثيرا كقول الله تعالى : { إني ذاهب إلى ربي سيهدين } ( الصافات : 99 ) ، ويحتمل كذلك أن يقصد إبراهيم عليه السلام من كلامه السقم المعنوي : أي الحزن على حال قومه لقيامهم بعبادة الأصنام .

وأما قوله عليه السلام : { بل فعله كبيرهم هذا } فهو استدلال مشروط ومعناه : إن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم هذا ولن يستطيعوا النطق ، ولذلك أتبعه بقوله : { فاسألوهم إن كانوا ينطقون } ،  وأما تعبيره عن زوجته بأنها أخته ، فقد كان يقصد أخوة الإسلام ، بدلالة قول النبي – صلى الله عليه وسلم – في سياق آخر للحديث : ( فإنك أختي في الإسلام ) رواه مسلم .

ويستوقفنا أيضا في هذا الحديث وصف النبي – صلى الله عليه وسلم – لكلمات إبراهيم عليه السلام بقوله : ( ثنتين منهن في ذات الله عز وجل ) رغم أن توريته عن سارة كانت أيضا في ذات الله تعالى بدلالة قوله عليه السلام معللا: ( إنه ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك ) ، والجواب أن قصة سارة عليها السلام  وإن كانت أيضا في ذات الله ، لكنها تضمنت شيئا من المنفعة للنفس والحماية لها ، بخلاف الكلمتين الأخريين فقد كانتا خالصتين لذات الله تعالى .

وبخصوص قوله عليه السلام : ( ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك ) ، ليس المقصود به عموم الأرض ، ولكن المقصود به أرض مصر ؛ فإن لوطا كان مؤمنا في ذلك الوقت كما قال تعالى : { فآمن له لوط} ( العنكبوت :26  ) .

بقي أن نشير إلى جملة من الفوائد التي اشتمل عليها الحديث ، فمنها : أثر الدعاء في إزالة الكرب وكشف الضر عن المؤمنين ، ومنها : جواز قبول هدية المشرك ، فقد قبل إبراهيم عليه السلام الخادمة التي أرسلها الملك ، ومنها أيضا : مشروعية الوضوء في الأمم التي كانت قبلنا مع جهلنا بكيفيته ، إضافة إلى المحور الأساسي الذي دارت حوله القصة ، وهو : ابتلاء الله للأنبياء والصالحين ، رفعة لهم وزيادة في حسناتهم ، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم - : ( يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه ، وإن كان في دينه رقة ابتلى على حسب دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض ما عليه خطيئة ) رواه الترمذي .

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة