من يكافئ هؤلاء ؟

1 2302

عن صهيب رضي الله عنه قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى همس شيئا لا أفهمه ولا يخبرنا به ، فقال يوما : ( أفطنتم لي ؟ ) ، قلنا : نعم ، قال : ( إني ذكرت نبيا من الأنبياء أعطي جنودا من قومه ، فقال : من يكافئ هؤلاء ؟ أو من يقوم لهؤلاء ؟ - أو كلمة نحو ذلك - ، فأوحي إليه : أن اختر لقومك إحدى ثلاث : أما أن نسلط عليهم عدوا من غيرهم ، أو الجوع ، أو الموت ، فاستشار قومه في ذلك ، فقالوا : أنت نبي الله ، فكل ذلك إليك ، خر لنا ، فقام إلى الصلاة - وكانوا إذا فزعوا فزعوا إلى الصلاة - فصلى ما شاء الله ثم قال : أي رب ، أما عدو من غيرهم فلا ، أو الجوع فلا ، ولكن الموت : فسلط عليهم الموت ، فمات منهم سبعون ألفا ، فهمسي الذي ترون أني أقول : اللهم بك أقاتل ، وبك أصاول ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ) " رواه أحمد .

معاني المفردات

أفطنتم لي : أي هل أدركتم ما أفعله ؟

من يكافئ هؤلاء : أي من يساويهم منزلة ، ومن يقدر على قتالهم ؟

خر لنا : اختر لنا

وبك أصاول : أي بك أغلب أعدائي

تفاصيل القصة

لو رأينا سدا منيعا عالي البنيان ، قوي الأركان ، قادرا على احتواء المقادير الضخمة من مياه الأمطار والسيول ، ثم دب الوهن في ذلك السد وظهرت الشقوق في بعض نواحيه ، فأهمل وغض الطرف عنه ، حتى اتسع الصدع وازداد ، ثم جاءت اللحظة التي انهار فيها السد على علوه وشموخه ، لأجل ذلك الخلل في بدايته .

إنه تصوير دقيق لمرض العجب ، ذلك الداء العضال والشهوة الخفية ، حين تغفل النفس للحظات عن التجرد لله ، ونسبة الفضل إليه ، وتوثيق الصلة به ، والاعتماد التام عليه ، مع ما فيه من اغترار بالأسباب المادية ، واعتزاز بها ، والتفات نحوها ، ما يكون سببا في هلاك صاحبها وخسرانه .

ولأجل حماية المجتمع الإسلامي من أن يتأثر بهذه الآفة الخطيرة ، حرص النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يعالج هذه القضية بأسلوب قصصي بالغ التأثير ، وذلك بعد أحداث يوم حنين ، حينما أوشكت الهزيمة أن تحل بالمسلمين .

والقصة تتعلق بأمة سابقة ، تربت في أفنان العزة والمنعة حتى رسخت جذورها ، وقويت شوكتها ، وبلغت سمعتها القاصي والداني ، وأصبحت أمة عظيمة مرهوبة الجانب ، يحسب لها أعداؤها ألف حساب .

وأمام تلك الأبهة والعظمة ، لم يستطع النبي الذي بعث في تلك الأمة أن يمنع نفسه من النظر إلى قومه نظرة إعجاب وانبهار ، عبر عنهما لسانه بقوله : ( من يكافئ هؤلاء ؟ ) ، وهل خلقت أمة قادرة على المواجهة والصمود أمام جيوشها وعتادها ؟ .

لحظة إعجاب أردفتها العقوبة الإلهية العاجلة ، فقد أوحى الله إلى ذلك النبي أن يختار واحدة من ثلاث : إما أن تغشاهم أمة من الأمم المعادية فتتسلط عليهم وتذل أعناقهم ، وإما تحيق بهم المجاعة التي تضعف قواهم وتكسر شوكتهم ، أو ينزل بهم الموت ويقضي عليهم.

ولأن القرار مصيري يتعلق بالجميع ، لم ينفرد هذا النبي بالاختيار ، حيث أبلغ قومه بحقيقة الوضع وطلب منهم المشوره ، لكنهم أوكلوا الأمر إليه ، ثقة منهم برأيه .

وفزع النبي الكريم إلى الصلاة فهي خير زاد في النوائب والملمات ، فصلى ما شاء الله له أن يصلي ، يلتمس التوفيق من الله جل جلاله ، ويرجو الهداية إلى الصواب ، حتى اتضحت له ملامح كل خيار ، وما يترتب عليه من الآثار.

أما تسليط الأعداء عليهم ، فذلة ومهانة لا يرضاها نبي لأمته ، وأما الجوع ، فعذاب شديد قد يؤول إلى طمع العدو فيهم ، وهذا ما لا يريده ، فبقي الخيار الثالث ، فالموت أمر مكتوب على كل إنسان مهما طال به الزمن.

ويحيق الموت بتلك الأمة ، ليحصد في ليلة واحدة أرواح ما يزيد عن سبعين ألف نفس ، ويترك وراءه يبوتا تزأر فيها الرياح ، وجثثا هامدة ، كأن لم تغن بالأمس .

وكلما مرت ذكرى هذه القصة الأليمة في فؤاد رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، لهج لسانه بالبراءة من كل حول وقوة سوى الله عز وجل ، خوفا على أمته أن يصيبهم ما أصاب من قبلهم : (اللهم بك أقاتل ، وبك أصاول ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ) .

وقفات مع القصة

ألفاظ الحديث النبوي تنطق بالكثير من الدروس البليغة والحكم العظيمة ، يستوقفنا في مبدئها قول الصحابي الجليل صهيب رضي الله عنه : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى همس شيئا لا أفهمه ولا يخبرنا به " ، فهو يدل على المراقبة الدائمة التي كان يفعلها الصحابة رضوان الله عليهم لحركاته نبيهم عليه الصلاة والسلام وسكناته ، ومنطقه وسكوته ، ليقتدوا به ويأتسوا بأفعاله ، ولهذا استحق ذلك الجيل المنزلة العالية والتزكية البالغة من الله تعالى : { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما } ( لفتح : 29 ) .

وإذا كان الصحابة على قدر عال من الشغف بالعلم والنهم للتعلم ، فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – ما كان يكتم عنهم شيئا يقربهم إلى الله ، ويبدعهم عن النار ، ويفيدهم في دينهم ودنياهم .

وتدل القصة على خطر الإعجاب بالنفس ، والركون إلى الأسباب الدنيوية ، وما خبر يوم حنين عنا ببعيد ، يوم أعجب المؤمنون بكثرتهم وعددهم – وكانوا اثني عشر ألفا – فقالوا : " لن نغلب اليوم من قلة " ، ونسوا أن يستحضروا أسباب النصر الحقيقية ، فأوكلهم الله إلى أنفسهم ، وكادوا أن يغلبوا ، لولا نزول السكينة الإلهية على المؤمنين في ساحة المعركة ، ولولا أن جاء المدد من الله بالملائكة الكرام ، فكان لهم ذلك أعظم درس .

ومن دلالات القصة أيضا : أن العقوبة قد تحل ، والعذاب قد ينزل ، والهزيمة قد تصيب المؤمنين ، لا لأسباب ظاهرة ، ومعاص واضحة ، ولكن لأسباب خفية وعوامل داخلية لا يدركها سوى أرباب العقول الراجحة .

ونختم بفائدة أخرى دل عليها الحديث : وهو أن من شأن المؤمنين اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى حال الشدائد والكرب ، وحال الحيرة والتردد ، كي تنجلي عنهم الشدة ، ويستبين لهم الرأي الرشيد ، والاختيار السديد .

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة