شبهات في السيرة ....الإغارة على قوافل قريش

0 1946

يلحظ الناظر في شبهات المستشرقين ومن تبعهم سياستهم في قلب الحقائق والنظر إلى الأمور بمنظار قاتم ، يرى فيه الحق باطلا ، والحسن قبيحا ، والفضيلة رذيلة ، متوصلين بذلك إلى مأربهم الدنيء من تشويه صورة هذا الدين وتزييف حقائقه ، وهذه هي طريقتهم المفضلة في حربهم على الإسلام .

وسوف نستعرض في مقالنا هذا ، نموذجا لإحدى التشويهات المتعمدة والنظرات الجائرة للتاريخ الإسلامي .

لقد حاول المستشرقون ومن تبعهم إيهام الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم لجأ إلى السطو على قوافل قريش التي كانت محملة بأثمن البضائع ، رغبة منه في التوسع المالي ، وتكديس الثروات ، متناسين ما وصف به النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه من زهد وتقشف طيلة حياتهم ، ويقول أحدهم واصفا جيوش المؤمنين في العهد المدني قبل غزوة بدر : " ..وبدأت هذه السرايا باعتراض قوافل قريش والسطو عليها ، وأخذ ما أمكن من الغنائم منها " .

وللإجابة على هذه الشبهة ، ينبغي لنا أن نعلم تداعيات الأحداث وسرد تسلسلها التاريخي كي نفهم المناخ الذي ألجأ المسلمين إلى التعرض لتلك القوافل ، ولأجل أن يتضح للقاريء الكريم كيف تقلب الحقائق وتسمى بغير اسمها .

إن الوضع الذي عاش فيه المسلمون في العهد المكي كان شديدا ، فقد ضيق عليهم من قبل صناديد قريش وكبرائها ، فقاموا بتعذيبهم والتنكيل بهم ، ومارسوا معهم كل أساليب الاضطهاد الديني والتعذيب الوحشي ، حتى فقدوا بعضهم ، وأكلوا أوراق الشجر ، وعاشوا حياة مليئة بالمصاعب والآلام ، فما كان للمسلمين بد أن يتخلوا عن أوطانهم وديارهم ، فرارا بدينهم ، وطلبا لمكان يعبدون فيه ربهم ، دون أن يتعرض لهم أحد، وصدق الله إذ يقول في كتابه : { الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله } ( الحج : 40 ) .

ومما يؤكد ذلك قول عائشة رضي الله عنها : " كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، مخافة أن يفتن عليه" رواه البخاري ، وعنها أيضا : " ..وجعل البلاء يشتد على المسلمين من المشركين لما يعلمون من الخروج –  أي : لبيعة العقبة -  ، فضيقوا على أصحابه وتعبثوا بهم ، ونالوا منهم مالم يكونوا ينالون من الشتم والأذى ؛ فشكا ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستأذنوه في الهجرة " رواه ابن سعد في الطبقات .

وعلى الرغم من ذلك ، لم تقف قريش مكتوفة الأيدي ، بل قامت بالاستيلاء على جميع ممتلكات المهاجرين، واستباحت ديارهم وأموالهم ، وليس أدل على ذلك من تجريدهم لأموال صهيب الرومي رضي الله عنه.

حتى إذا تم استقرار المسلمين في المدينة واستتب لهم الأمر ، أذن الله تعالى لهم بالقتال لمن ظلمهم وبغى عليهم ، قال الله تعالى : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } ( الحج : 39 ) ، فأعلنت الحرب على قريش ورجالاتها منذ تلك اللحظة ، ومعلوم أن الحروب تأخذ أشكالا عديدة ، يأتي في مقدمها ما يسمى بلغة عصرنا : " الحرب الاقتصادية " ، فلهذا كان المسلمون يتعرضون لقوافل قريش ، ويقطعون طريقها .

يقول اللواء محمد جمال الدين محفوظ : " والضغط الاقتصادي من الأساليب التي لها آثار استراتيجية في الصراع ، وبدراسة الأعمال العسكرية التي تمت خلال العامين الأول والثاني للهجرة إلى ما قبل غزوة بدر ، يتضح أن هدفها الغالب هو التعرض لقافلة قريش على طريق تجارتها من مكة إلى الشام ، مما شكل ضغطا اقتصاديا على قريش التي أدركت أن هذا الطريق أصبح محفوفا بالمخاطر ، وخاصة بعد أن عقد الرسول صلى الله عليه وسلم الاتفاقات والمعاهدات مع القبائل العربية ، وأبلغ تعبير عن آثار هذا الضغط الاقتصادي قول صفوان بن أمية لقومه : إن محمدا وأصحابه قد عوروا علينا متجرنا ، فما ندري كيف نصنع بأصحابه وهم لا يبرحون الساحل ، وأهل الساحل قد وادعهم ودخل عامتهم معه ، فما ندري أين نسلك ؟ ، وإن أقمنا في دارنا هذه أكلنا رؤوس أموالنا ، لم يكن لها من بقاء ، وإنما حياتنا بمكة على تجارة الشام في الصيف ، وإلى الحبشة في الشتاء " أ.هـ.

ويؤكد ما سبق ، ما رواه الإمام الطبراني في معجمه أن أبا جهل قال في معرض كلامه عن سرية سيف البحر : " يا معشر قريش ، إن محمدا قد نزل يثرب وأرسل طلائعه ، وإنما يريد أن يصيب منكم شيئا ، فاحذروا أن تمروا طريقه وأن تقاربوه ، فإنه كالأسد الضاري ، إنه حنق عليكم " ، وهكذا أعادت قريش النظر في صراعها مع المسلمين بعد تلك الضربات الموجعة .

ولم تكن تلك الضربات هي المعتمد الإقتصادي لدى المسلمين ، فقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إنشاء سوق منافسة لسوق اليهود في المدينة ، وسرعان ما ازدهرت تلك الحركة التجارية لتصبح موردا قويا لتلك الدولة الناشئة .

ثم لو كان المقصود من هذه الغارات الطمع في التوسع المادي المجرد من القيم الأخلاقية ، لما روى لنا التاريخ في صدره الأول أمثلة راقية لذلك الجيل ، تبين لنا ما وصلوا إليه من زهد في الدنيا ، وتقلل من متاعها ، ولما وجدت في تعاليم النبي صلى الله عليه وسلم ذما لها أو تحذيرا من الافتتان ببهرجها وزخارفها.

ولما تضافرت النصوص النبوية نهيا عن كل مظاهر الإسراف والترف ، أو بيانا لعواقب المتكبرين والمختالين ، أو ترغيبا بالجود والعطاء ، والكرم والسخاء ، والإيثار بكل صوره .

ثم إن المسلمين قد تحقق لهم توسع أكبر في دولتهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وصار لها ثقل اقتصادي ضخم ، وموارد مالية عديدة ، فما زادهم إلا زهدا في الدنيا وما فيها ، وغدا الجميع كأسرة واحدة، يحنو بعضهم على بعض ، ويغيث الأخ أخاه ، ويتعاهده في حضرته وغيبته .

ولم تقتصر هذه المظاهر الإنسانية على أبناء ملتهم فحسب ، بل امتدت لتشمل الآخرين من معتنقي الملل الأخرى ، وشواهد التاريخ أعظم دليل على ذلك .

فخلاصة الأمر : أن التعرض لقوافل قريش كان نوعا من الحرب الاقتصادية عليها ، وكسرا لشوكتها ، وما ذلك إلا رغبة في رد حقوق المسلمين المسلوبة وأموالهم المنهوبة ، وبهذا يتقرر لنا أن هذه الشبهة المثارة ليس لها رصيد من الحقيقة ، ولا تجرد من قائليها ، بل هي انحراف ظاهر في تقييم الأمور وتوصيف الأحداث.

مواد ذات صلة