قصة محاولة التردي من الجبال...تحت المجهر

1 1776

لا تزال سهام أعداء الإسلام تتوالى للطعن في هذا الدين ، مستخدمين في ذلك طرقا شتى وأساليب مختلفة ، فتارة يوجهون سهامهم للتشكيك في القرآن الكريم ، وتارة يحاولون النيل من شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، قاصدين بذلك الانتقاص من حقه ، والإقلال من قدره .

واليوم نقف مع شبهة جديدة أثارها القوم في حقه صلى الله عليه وسلم ، وحاصلها اتهامه بمحاولة الانتحار في العهد المكي ، في فترة انقطاع الوحي وفتوره بعد اللقاء الأول بينه وبين جبريل عليه السلام .

ورغبة في دحض هذه الشبهة وبيان تهافتها ، بنبغي لنا أن نلقي نظرة شمولية على تلك الروايات التي استندوا إليها ، فقد روى ابن سعد في الطبقات قال : " أخبرنا محمد بن عمر قال : حدثني إبراهيم بن محمد بن أبي موسى عن داود بن الحصين عن أبي غطفان بن طريف عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما نزل عليه الوحي بحراء ، مكث أياما لا يرى جبريل عليه السلام ، فحزن حزنا شديدا ، حتى كان يغدو إلى ثبير مرة ، وإلى حراء مرة ؛ يريد أن يلقي نفسه منه ، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك عامدا لبعض تلك الجبال ، إلى أن سمع صوتا من السماء ، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم صعقا للصوت ، ثم رفع رأسه:  فإذا جبريل على كرسي بين السماء والأرض متربعا عليه ، يقول : " يا محمد ، أنت رسول الله حقا ، وأنا جبريل " .

وروى الإمام الطبري في تاريخه قال : " حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : حدثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير ، قال : سمعت عبد الله بن الزبير ، وهو يقول ل عبيد بن عمير بن قتادة الليثي : حدثنا يا عبيد كيف كان بدء ما ابتدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة ؟ فذكر الحديث إلى قوله : ( حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ورحم العباد بها ، جاءه جبريل بأمر الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاءني وأنا نائم بنمط من ديباج ، فيه كتاب ، فقال : اقرأ ، فقلت : ما اقرأ ؟ فغتني ، حتى ظننت أنه الموت ، ثم أرسلني فقال : اقرأ ، فقلت : ماذا أقرأ ؟ وما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود إلى بمثل ما صنع بي ، قال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق  } إلى قوله { علم الإنسان ما لم يعلم } ( العلق : 1-5 )  ، قال : فقرأته ، قال : ثم انتهى ، ثم انصرف عني وهببت من نومي ، وكأنما كتب في قلبي كتابا .

قال : ولم يكن من خلق الله أحد أبغض إلى من شاعر أو مجنون ، كنت لا أطيق أن أنظر إليهما ، قال : قلت إن الأبعد - يعني نفسه - لشاعر أو مجنون ، لا تحدث بها عني قريش أبدا ! لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه أقتلها فلأستريح . قال : فخرجت أريد ذلك ، حتى إذا كنت في وسط من الجبل ، سمعت صوتا من السماء يقول : يا محمد ، أنت رسول الله ، وأنا جبريل ..) .

وقد روى البخاري رحمه الله هذه القصة أيضا مدرجة في حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ آخر ، قال : حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب ، وحدثني عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر ، قال الزهري فأخبرني عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " ..ثم لم ينشب ورقة أن توفي ، وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال ، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه ، تبدى له جبريل فقال : يا محمد ،  إنك رسول الله حقا . فيسكن لذلك جأشه ، وتقر نفسه ، فيرجع ، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروة جبل ، تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك ) .

وخلاصة هذه الشبهة عندهم: أن هذه الروايات المذكورة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم حاول مرارا أن يلقي بنفسه من رؤوس الجبال ، فهي إذا محاولة منه للانتحار ، وهذا لا يليق بشخص من هو في مقام النبوة .

والرد على هذه الشبهة يستدعي منا أن ننظر أولا إلى صحة تلك الروايات المنقولة ، وبيان ذلك فيما يلي :

أما حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، فقد جاء من طريق محمد بن عمر الواقدي ، ومعلوم عند علماء الجرح والتعديل أن الواقدي متروك الحديث ، فقد قال الإمام البخاري عنه في كتاب الضعفاء : " متروك الحديث " ، وكذلك حكم عليه الحافظ ابن حجر في التهذيب وغيرهم .

ومن المعلوم أن وجود راو متروك في حديث ، يجعله مردودا غير قابل للتصحيح بالشواهد الأخرى .

أما رواية الإمام الطبري فهي مردودة سندا ومتنا ؛ فإن المتن فيه نكارة ظاهرة ، حيث جعل الرؤيا الأولى لجبريل عليه السلام رؤيا منامية ، وهذا مخالف لبقية النصوص التي تثبت أنها رؤية حقيقية ، ثم كان من جواب النبي صلى الله عليه وسلم : ( ماذا أقرأ ؟ ) ، وهذا لم يحصل ؛ فإن الثابت في صحيح البخاري وغيره أنه كان يقول : ( ما أنا بقاريء )  ، دعك من إغفال هذه الرواية لذكر ذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى خديجة و ورقة بن نوفل رضي الله عنهما ، وما ذكر في الروايات الصحيحة أن الرؤية الثانية ل جبريل عليه السلام كانت بعد فتور الوحي وانقطاعه .

وإذا نظرنا إلى سند هذه الرواية وجدنا فيه عدة علل : الإرسال ؛ فإن عبيد بن عمير ليس صحابيا ، إنما هو من كبار التابعين ، كما أن في السند راويان متكلم فيهما : سلمة - وهو ابن فضل الأبرش - قال عنه الحافظ ابن حجر : " صدوق كثير الخطأ " ، و ابن حميد الرازي كذبه جماعة من العلماء كأبي زرعة وغيره .

ونأتي إلى رواية الإمام الزهري في حديث عائشة رضي الله عنها ، فقد وردت القصة على كيفيات مختلفة في البخاري ومسند الإمام أحمد ومصنف الإمام عبدالرزاق وغيرهم ، لكن الناظر إلى رواية الإمام الزهري يجد أنها باطلة ، ووجه ذلك أن معظم روايات هذا الحديث لم تذكر ذلك الحدث ، وقد روى الإمام البخاري حديث نزول الوحي أكثر من مرة في صحيحه دون أن يشير إلى هذه القصة .

أما الروايات التي ذكرت هذه الحادثة ، فقد وردت مدرجة في الحديث ، قال الحافظ ابن حجر ما نصه : " ثم إن القائل ( فيما بلغنا ) هو الزهري ، ومعنى الكلام : أن في جملة ما وصل إلينا من خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه القصة ، وهو من بلاغات الزهري وليس موصولا ) أ.هـ ، فحكم هذه الزيادة الإرسال ،  ومرسل الإمام الزهري ضعيف عند أهل الحديث ، يقول الإمام يحيى بن سعيد القطان : " مرسل الزهري شر من مرسل غيره ؛ لأنه حافظ ، كلما قدر أن يسمي سمى ، وإنما يترك من لا يستجيز أن يسميه " وقال أيضا عنه : " هو بمنزلة الريح " .  

على أن هناك مؤشرات تدل على ضعف هذه القصة ، فمن تلك المؤشرات :

ما رواه الإمام البخاري عن عروة أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : " هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟ قال : ( لقد لقيت من قومك ما لقيت ،  وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ، إذ عرضت نفسي على بن عبد يا ليل بن عبد كلال ، فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب..) الحديث .

فهنا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن أشد ما وقع عليه ، هو ذلك الأذى النفسي الحاصل من تكذيب أهل الطائف له ، حتى إنه بقي مهموما حزينا لم يستفق إلا وهو بعيد عن الطائف ، نعم ، إن حزن النبي صلى الله عليه وسلم على فتور الوحي ثابت في نصوص أخرى ، غير أن حزنه ما كان ليبلغ حد الرغبة في إلقاء نفسه من علو ، وإلا لكان هذا أجدر بالذكر من حادثة الطائف المذكورة هنا .

ومما يبين ضعف القصة : أن الرواية ذكرت أن سبب حزن النبي صلى الله عليه وسلم ومحاولته للانتحار ؛ إنما كان خوفا من انقطاع الوحي والرسالة ، ولو كان هذا صحيحا ، لكان ظهور جبريل عليه السلام مرة واحدة وقوله : ( إنك لرسول الله حقا ) كافيا في تأكيد أنه مبعوث إلى العباد وتحقق الاصطفاء له، فلا معنى لأن يدخل الحزن في قلبه وأن يحاول الانتحار مرات ومرات – كما في رواية الزهري –.

فالحادثة المذكورة قد اجتمع فيها الشذوذ في السند ، والنكارة في المتن ، فلا معنى لأن تتخذ مطعنا في النبي الكريم .

ومع هذا كله ، وبفرض صحة هذه القصة جدلا ، فليس فيها ما يعيب شخص النبي صلى الله عليه وسلم أو يقدح في عصمته ، وبيان ذلك أنه قد هم – على فرض صحة الرواية- بأن يلقي بنفسه ، والهم هنا لم ينتقل إلى مرحلة التنفيذ ، وذلك شبيه بما حكاه الله تعالى عن يوسف عليه السلام في قوله : { ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه } ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة : " ولهذا لما لم يذكر عن يوسف توبة في قصة امرأة العزيز ، دل على أن يوسف لم يذنب أصلا في تلك القصة " . وهذا كحديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له واحدة أو يمحوها الله ) متفق عليه .

وأيضا : فإن تحريم قتل النفس لم يكن نازلا في شريعته صلى الله عليه وسلم ، إذ القصة في بداية أمر الوحي ، فكيف تكون تلك الحادثة - على فرض صحتها - مدخلا للطعن فيه صلى الله عليه وسلم ؟ .

ثم نقول : إن العصمة متحققة في هذه الحالة ، ووجه ذلك أن الله سبحانه وتعالى صرف عنه هذا السوء ، كما صرف عنه قبل مبعثه حصول التعري ، وشرب الخمر ، والجلوس مع فتيان قريش ، وغير ذلك مما هو مبثوث في السيرة .

وهكذا يتبين لك أخي القاريء  أن هذه الشبهة ليس لها أدنى حظ من النظر ، فلا هي ثابتة سندا ، ولا هي صالحة للطعن في من شهد له أعداؤه قبل محبيه بسمو أخلاقه ورجاحة عقله وطهارة روحه.

مواد ذات صلة