رجلٌ أضلّ ناقته

4 2550

عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن ، من رجل في أرض دوية مهلكة ، معه راحلته ، عليها طعامه وشرابه ، فنام فاستيقظ وقد ذهبت ، فطلبها حتى أدركه العطش ، ثم قال : أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه ، فأنام حتى أموت ، فوضع رأسه على ساعده ليموت ، فاستيقظ وعنده راحلته وعليها زاده وطعامه وشرابه ، فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده ) رواه مسلم .

وجاء في رواية أخرى : ( فسعى شرفا فلم ير شيئا ثم سعى شرفا ثانيا فلم ير شيئا ثم سعى شرفا ثالثا فلم ير شيئا فأقبل حتى أتى مكانه الذي قال فيه ) ، وفي حديث النعمان بن بشير زيادة : ( ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح ) رواه مسلم .

غريب الحديث

أرض دوية مهلكة : هي الأرض القفر والفلاة الخالية ، والتي يخشى الموت فيها .

قال فيه : أي نام القيلولة .

تفاصيل القصة

مع كثرة الذنوب ، وتوالي الخطايا ، ومع الانسياق نحو الموبقات رغم تكرار الوعود وقطع العهود ، يتنامى سؤال كبير يدور في نفوس العصاة من بني آدم : " أبعد كل هذا يغفر الله لي ؟ وهل عساني أظفر بالعفو وقبول التوبة " .

وقبل أن تنقطع حبال الأمل من النفوس ، ويخيم على أرجائها القنوط ، تأتي الإجابة على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مثل مضروب ، يفتح للمذنبين أبواب الرجاء ، ويخرجهم من دائرة اليأس .

ويسرد النبي - صلى الله عليه وسلم - المثل الذي تدور أحداثه في صحراء مقفرة ، شديدة القيظ ، لا ماء فيها ولا كلأ ، وفي هذا المشهد يظهر رجل تبدو على قسماته ملامح الإجهاد والتعب ، في سفر طويل لا مؤنس له فيه سوى ما يسمعه من صدى خطواته ، وما يبصره من ظل ناقته ، والتي جعل عليها طعامه وشراب .

ولم تزل الشمس عن كبد السماء حتى كان الإرهاق قد بلغ به أيما مبلغ ، فطاف ببصره يبحث عن شجرة تظله ، حتى وجد واحدة على قارعة الطريق ، فاتجه نحوها وأناخ ناقته ثم استلقى تحتها ، وأغفى قليلا ليستعيد نشاطه ويسترد قواه ، إلى حين تنكسر حدة الشمس وتخف حرارة الجو ، ولأن الرجل لم يحكم وثاق ناقته ، انسلت عنه ومضت في سبيلها ، فلما استيقظ من نومه لم يجدها ، ففزع فزعا شديدا ، وانطلق يجري بين الشعاب وفوق التلال دون جدوى .

ولما استيأس الرجل وأيقن بالهلاك ، عاد إلى موضعه تحت الشجرة جائعا عطشا ، مرهق الجسد قانط النفس ، فنام في مكانه ينتظر الموت ، ولكن يا للعجب ، لقد أيقظه صوت ناقته ، فوجدها فوق رأسه ، ففارقه اليأس ، وحل بدلا منه فرح شديد كاد يفقده صوابه ، إنه فرح من عادت له الحياة بعد أن أيقن بالموت والهلاك ، حتى أنه أخطأ من شدة الفرح فأبدل الألفاظ : ( اللهم أنت عبدي وأنا ربك ) .

ثم يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - من حوله أن فرح الله بتوبة عباده وإقبالهم عليهم أشد وأعظم من هذه الفرحة التي طغت على مشاعر الرجل : ( فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده ) .

وقفات مع المثل

إن الغاية من المثل الذي ضربه النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث هي دعوة المؤمنين إلى المبادرة بالتوبة ، حتى يطهروا أنفسهم من أرجاس المعاصي والذنوب ، كما قال الحق سبحانه وتعالى في محكم التنزيل : { وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } (النور: 31) ، وقال تعالى : { أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم } (المائدة: 74) .

وقد بين - صلى الله عليه وسلم - أن ربنا عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ، وأن أبواب التوبة مفتوحة ، لا تغلق إلى قرب قيام الساعة ، وما أكثر الآيات والأحاديث التي جاءت تبين ذلك وتفصله .

وإذا كانت المثل الذي بين أيدينا يعطينا لمحة عن الرحمة الإلهية ، فهو يوقفنا كذلك على صفة من صفاته سبحانه ، وهي المذكورة في قوله عليه الصلاة والسلام : ( فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن ) ، وذلك إثبات أن الله تعالى يفرح فرحا يليق بجلاله وكماله ، ولا يشبه فرح المخلوقين .

كما يشير الحديث إلى أن الله سبحانه وتعالى لا يحاسب العبد على الألفاظ والأقوال التي تصدر منه دون قصد ، فالرجل قال من شدة الفرح : ( اللهم أنت عبدي وأنا ربك ) فظاهر العبارة كفر ، لكن العبرة بما وقر في قلبه وما أراده في نفسه .

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة