خروج النبي للبقيع

3 1610

عن عائشة رضي الله عنها قالت : " لما كانت ليلتي التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها عندي، انقلب فوضع رداءه وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه فاضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظن أن قد رقدت، فأخذ رداءه رويدا وانتعل رويدا وفتح الباب فخرج، ثم أجافه رويدا، فجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري ثم انطلقت على إثره، حتى جاء البقيع فقام فأطال القيام ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرت، فسبقته فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت فدخل، فقال مالك:   (يا عائش حشيا رابية) ؟، قلت: لا شيء، قال: (لتخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير) ، قلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي،  فأخبرته فقال: (فأنت السواد الذي رأيت أمامي) ؟ قلت: نعم، فلهدني في صدري لهدة أوجعتني، ثم قال: (أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله) ؟ قالت: مهما يكتم الناس يعلمه الله؟ قال: (نعم) ، قال: (فإن جبريل أتاني حين رأيت، فناداني فأخفاه منك، فأجبته فأخفيته منك، ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك، وظننت أن قد رقدت، فكرهت أن أوقظك، وخشيت أن تستوحشي، فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم) ، قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: (قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون) " رواه مسلم .

وفي رواية الإمام أحمد : " فلهزني في ظهري لهزة فأوجعتني".

معاني المفردات

انقلب : أي تحول عنها.

فلم يلبث إلا ريثما ظن أن قد رقدت: انتظر الوقت الكافي لنومها.

رويدا : ببطئ.

أجافه : أغلقه.

اختمرت : لبست خمارها.

تقنعت إزاري : لبست إزاري.

البقيع : مقبرة بالقرب من مسجد النبي عليه الصلاة والسلام.

فأحضر : الحضر هو العدو السريع.

حشيا رابية : هو مرض يسبب ارتفاع صوت النفس مع تسارعه.

لهدني : اللهد :الدفع بجميع الكف في الصدر ، وهو ما جاء في الرواية الأخرى (لهزني).

يحيف الله عليك : الحيف هو الظلم.

تستوحشي: الوحشة : الخوف من الوحدة.

تفاصيل القصة

ضربة قوية تلقاها صدر عائشة رضي الله عنها من يد النبي – صلى الله عليه وسلم -فآلمتها وأوجعتها، لكن حرارة تلك الضربة لم تتعد الجسد، بل – وياللعجب – كانت أحب إليها من أي شئ آخر، ويبرز السؤال: ما الذي جعل النبي عليه الصلاة والسلام يقدم على هذا الفعل؟، ولماذا هان الألم على زوجته وأحب الناس إليه؟، وفوق ذلك: كيف استطاعت أم المؤمنين بفطنتها وحنكتها أن تستثمر الموقف وتدير دفته لينتهي الموقف بتقرير أحكام عظيمة وفوائد جليلة، تعود نفعها على الأمة إلى قيام الساعة؟

لإدراك أبعاد الموقف علينا العودة إلى البداية، حين أرخى الليل سدوله والنبي – صلى الله عليه وسلم – مستلق على فراشه بجوار عائشة رضي الله عنها، يظنها مستغرقة في نومها، فانسل من بين يديها، ثم انتعل حذاءه وأغلق الباب وراءه وهو حريص على ألا يصدر صوتا يوقظها.

والذي لم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – يعلمه، أن زوجته كانت تتصنع النوم وتتظاهر به، وتبصره من طرف لحافها وهو يخرج من البيت، وحدثتها نفسها عن سر خروجه عليه الصلاة والسلام في مثل هذه الليلة الليلاء، أحاجة ماسة؟ أم لقضاء حاجة في نفسه؟

وما إن مس هذا الخاطر فكرها، حتى نهضت فزعة إلى ردائها، مدفوعة بحرارة الغيرة لتقفو أثره وتقف على خبره، وظلت تسير خلفه حتى رأته يدخل البقيع ويقصد قبور أصحابه، ثم يقف بين ساكنيها، ومكث فيها طويلا يرفع يديه حينا ويخفضها أخرى.

وبينما عائشة رضي الله عنها ترمق النبي – صلى الله عليه وسلم – من بعيد وهي غارقة في تأملاتها، إذ بالنبي عليه الصلاة والسلام يستدير متجها صوب بيته، فأجفلت رضي الله عنها وسارعت بالعودة كي لا يراها، لكنها بدأت تلحظ أن خطواته عليه الصلاة والسلام آخذة بالتسارع، حتى تحول مشيه إلى عدو سريع، لكنها رضي الله عنها كانت أسرع منه، فاستطاعت أن تسبقه إلى البيت فتخففت من ثيابها واستلقت على فراشها تتظاهر بالنوم، وأنى لمن كان يركض قبيل لحظات أن يعود إلى فراشه هادئا منتظم الأنفاس!

ذلك ما جعل النبي – صلى الله عليه وسلم – يكتشف أمرها بسهولة، وحاصرها بالأسئلة حتى اعترفت أنها كانت تتبعه من بعيد، وهنا لهزها النبي عليه الصلاة والسلام بيده الشريفة في صدرها معاتبا لها على فعلها، ثم قال : (أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله؟) ، ثم أخبرها بأن جبريل عليه السلام أبلغه بأن يذهب إلى أهل البقيع كي يستغفر لهم، وأنه خشي أن يوقظها فتشعر بالوحدة والوحشة.

ويختتم الموقف بمحاولة ذكية في إخراج الحوار من قضية العتاب إلى قضية السؤال والتعلم، فبادرت بالاستفسار عن السنة القولية عند زيارة القبور، فكان الجواب : (قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون) ".

إضاءات حول الموقف

لا شك أن الموقف الذي بين أيدينا مليء بالعبر والدروس التي تحتاج إلى تأمل، من ذلك: الدرس العملي الذي قدمه النبي –صلى الله عليه وسلم – لأمته في حسن العشرة ومراعاة المشاعر، من خلال خشيته في إيقاظ زوجته وحرصه على الخروج بهدوء، نلحظ ذلك من خلال عدد من الألفاظ التي تكررت في الحديث، كقولها : ( فلم يلبث إلا ريثما ظن أن قد رقدت) و (فأخذ رداءه رويدا وانتعل رويدا) و (أجافه رويدا) ، وبالرغم من هذه الرقة المتناهية والحنان البالغ، نجده لا يتردد في معاتبة عائشة رضي الله عنها بالقول والفعل، وليس هناك تناقض بين الموقفين، بل هو تعامل مع كل منهما بما يناسب، والحكمة أن تضع الشيء في موضعه كما هو معروف، وهذا التأديب في إطاره المقبول، الذي لا يكسر سنا، أو ينكأ جرحا، أو غير ذلك مما جاء تحريمه.

ومن الأمور التي أشار إليها الحديث ضرورة العدل بين الزوجات في الأوقات، فيعطي الواحدة نصيبها، ولا يذهب في ليلة الأولى إلى غيرها، اللهم إلا أن تكون ثمة ضرورة أو حاجة تدعو إلى ذلك، فلا بأس من الذهاب إذا أذنت صاحبة الحق، والحاجة تقدر بقدرها.

وفي شأن الدعاء احتوى الحديث على عدد من الآداب : ففيه استحباب إطالته، وفيه رفع اليدين أثناء ذلك، كذلك فإنه يرشد إلى ما يقال عندها، وهو قول : ( السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون ) ، وجاءت في السنة ألفاظ أخرى معروفة في مواطنها.

وفي زيارة النبي – صلى الله عليه وسلم - المقابر ليلا دليل على مشروعيتها، إذ المقصود الاتعاظ والذكرى، والدعاء للميت بالمغفرة والرحمة، مع ضرورة التقيد بالأحكام الشرعية الواردة في الزيارة،وتجنب الممارسات الممنوعة من النياحة ولطم الخدود، أو قول الباطل وفعله.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة