سُبقت العضباء

0 1037

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : " كانت ناقة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم - تسمى العضباء، وكانت لا تسبق،  فجاء أعرابي على قعود له فسبقها، فاشتد ذلك على المسلمين وقالوا : سبقت العضباء،  فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ( إن حقا على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه ) رواه البخاري .

معاني المفردات

قعود: البكر من الإبل حتى يركب.

تفاصيل الموقف

قد يظن البعض ممن يستعرض حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – أنها صفحات سطرت – وبشكل كامل – بمداد من الجدية والعمل والمثابرة، والصبر والمصابرة، والجهاد والتضحية، على نحو لم يترك للراحة والاستجمام موضعا، ولا للأنس واللهو البريء موطنا، خاطر قد يكون مبعثه مداومة النظر في غزواته عليه الصلاة والسلام وفتوحاته دون الالتفات إلى غيرها.

لكن واقع الأمر غير ذلك، فإنسانية نبينا – صلى الله عليه وسلم – كانت حاضرة في تعامله مع الناس حوله، على نحو يتوج سيرته العطرة، ويضيف إليها كمالا من كمالاتها، ولئن كان ملوك الأرض ورؤساء القوم يستمدون مكانتهم من الاستعلاء على شعوبهم، والإغراق في بهارج الحياة وزخرفها، فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام نفذت محبته شغاف القلوب، بما حققه من التوفيق بين مقامات النبوة ودواعي الإنسانية، وما يقتضيه ذلك من مخالطة الناس ومعايشتهم، وترجم ذلك النجاح في مواقف عدة نراه فيها يسامر أصحابه ويجالسهم، يداعب هذا ويمازح ذاك، ويحضر أفراح الناس ومناسباتهم، بل ولا يجد في مشاركة الناس في لهوهم وسباقاتهم غضا من هيبته أو إنقاصا من منزلته.

وفي هذا السياق تروي لنا الأخبار من شأن النبي – صلى الله عليه وسلم –  مع ناقته "العضباء" عجبا، تلك الناقة التي أثبتت الأيام سرعتها وقوتها في كل السباقات التي كان فيها للنبي  عليه الصلاة والسلام حضور، حتى استقر في أذهان أصحابه ألا طاقة لأحد في التفوق عليها، أو نزع لقب الصدارة عنها.

وظل الأمر على حاله حتى جاء اليوم الذي قدم فيه أعرابي من البادية، قطع الفيافي والقفار ليقابل النبي – صلى الله عليه وسلم – في شأن من شؤونه، وكانت تلك عادة متبعة من الأعراب أن يفدوا على رسول الله عليه الصلاة والسلام بين الحين والآخر، يسألونه في دينهم أو يطلبون بلغة لدنياهم.

وتجاذب الأعرابي طرف الحديث مع النبي – صلى الله عليه وسلم – في مختلف الأمور، ولعل مسار الحوار قادهم إلى ذكر " العضباء" وتميزها لتنشأ الرغبة المشتركة في إجراء منافسة جديدة مع ذلك الوافد البعيد .

 وطار الخبر بين الناس كأسرع ما يكون، وتناقلت الألسنة أن سباقا فريدا على وشك أن تدور رحاه، وتقاطر الصحابة من أنحاء المدينة إلى الميدان المشهود، ليروا النبي – صلى الله عليه وسلم – معتليا " العضباء " وبجواره الأعرابي على ناقته اليافعة، والكل في ترقب وإرهاف سمع لإشارة البدء، وبدأ السباق لتنطلق الناقتان بكل ما تملكان من قوة، ورسول الله عليه الصلاة والسلام يستحث "العضباء" كي تسرع، وتصاعد الغبار وانطلقت هتافات التشجيع من هنا وهناك.

ويبدو أن الناقة التي جاء بها الأعرابي كانت أقل سنا وأكثر حيوية، ما جعل المسافة بين الأعرابي وبين النبي – صلى الله عليه وسلم – تتقلص، حتى استطاع أن يتجاوزه، وانتهى السباق على غير المتوقع بفوز الأعرابي!

لم يستفق الصحابة رضوان الله عليهم من هول النتيجة، غيرة منهم على صدارة النبي – صلى الله عليه وسلم – أن تمس، واستبدت بهم مشاعر الإحباط، وبلغ منهم الحزن كل مبلغ، وإن كأس الهزيمة لمرير.

ورأى النبي – صلى الله عليه وسلم – ملامح الوجوه من حوله، فأدرك ما يعتمل في نفوس أصحابها من الألم الممض، وأراد استثمار الموقف، ليقرر سنة إلهية لا تتغير ولا تتبدل :  (إن حقا على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه) .

إضاءات حول الموقف

يقدم النبي – صلى الله عليه وسلم – بين يدي أصحابه حقيقة كونية، كفيلة لمن تأملها وجعلها نصب عينية أن تكون سببا في إقباله على الطاعة، وزهده في الدنيا، والتصاقه بركن الله، وبراءته من حوله وقوته.

إنها إيماءة نبوية لطيفة، تبين أن حال الدنيا لا يدوم على حال، وأنها لا تبقى لأحد، تدور كما يدور الماء إذا غلى في المرجل، وأن أحوالها في تقلب دائم كحال ريشة في مهب الريح، وإنما الأيام دول. فمن تراه اليوم ملكا غنيا، قد تراه غدا فقيرا معدما، ومن تبصره يفاخر بقوته ويتبجح بشدته، سيأتي عليه يوم يكون فيه طريح الفراش، لا حول له ولا قوة، ولنا في قول الحق تبارك وتعالى : {الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة } (اليوم:54) وقوله : { وتلك الأيام نداولها بين الناس} ( آل عمران : 140).

وهذه السنة ليست مقتصرة على أحوال الأفراد، بل هي عامة في الأمم على مختلف العصور، وإنك لترى حضارة قد بلغت أوج مجدها، فإذا بعوامل الضعف تدب فيها وتنخر بنيانها مؤذنة بانهيارها، وما أخبار "عاد" عنا ببعيد.

وإن في سنن "المداولة بين الناس " لعبرا، وفي تقلب الأوضاع والأحوال لمزدجرا، يمنع اللبيب من الافتتان بزهرة الدنيا الفانية، ويحرضه على اغتنام شبابه قبل هرمه، وصحته قبل سقمه، وغناه قبل فقره، وفراغه  قبل شغله، وحياته قبل موته.

ومما يستوقفنا هنا : عمق الإحساس الوجداني لدى النبي – صلى الله عليه وسلم – بآلام الناس ومشاعرهم، دون الحاجة إلى التعبير عنها بألفاظهم، وإن إدراك هذه القضية ضروري لأولئك الذين يتصدرون مجالات الدعوة ويخالطون الناس.

وفي الحديث –فوق ما تقدم - بيان حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وتواضعه، والتأكيد على جواز اتخاذ الإبل للركوب والمسابقة عليها. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة