حتى لا تكون الطاعة.. وبالا!!!

1 890

من نعم الله - تبارك وتعالى - على عباده أن شرع لهم سبلا لطاعته ومنهجا للقرب منه؛ ليكون أنيسا لهم من ضيق العيش في الدنيا وهفواته، وبلاغا إلى مرضاة الرب وجناته، وتثبيتا لهم في وجه فتن الزمان ونكباته، وزيادة على ذلك كله ترك لهم بعد فعلها حلاوة يجدونها في قلوبهم وألسنتهم وعقولهم، فإذا بالسكينة والطمأنينة تغشاهم، والخشوع والإخبات في قلوبهم، والهمة والعزيمة تتملك جوارحهم، كأني بأحدهم لو أراد أن يزحزح الجبال لزحزحها عن مكانها من شدة القوة التي أدخلتها عليه تلك الطاعات والقربات.

يقول بعض الشيوخ: "وإنه ليأتي على القب أحوال يرقص فيها طربا حتى أقول: إن كان أهل الجنة فيمثل هذه الحال إنهم لفي عيش طيب. وقال الآخر: لأهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم.

إلا أن هذه الحلاوة وهذه اللذة التي تتركها الطاعة في قلب فاعلها تنقلب رأسا على عقب من دائرة الحسنة المقبولة المرضي عنها إلى المردودة التي ترمى كالخرقة البالية في وجه صاحبها؛ ولهذا قال بعضهم: احذروا حلاوة الطاعات! وذلك لأن المقصود من الطاعة لله - تبارك وتعالى - هو الخضوع والخشوع والانقياد والتذلل والانكسار له - سبحانه - فإذا خلت من هذه المعاني واتصفت بأضدادها كانت سما قاتلا ووبالا على صاحبها.

فالعبد المطيع وهو في غمرة طاعته لربه من خلال أدائه للأعمال الصالحة والمشروعة يرجو ثواب الله وإعلاء كلمة الله؛ يصيبه في سيره المبارك داء العجب تارة ومرض الكبر والغرور تارة أخرى، فينحدر إلى الأسفل بعد أن كان صاعدا إلى الأعلى. وبذكر المثال يتضح مقصود المقال:

1 - ذلك المتعبد بركعات النوافل الظاهرية والسرية والمواظب على صيام الأيام الشتوية والصيفية، والمداوم على ذكر ربه ومناجاته والخلوة به والأنس إليه والانطراح بين يديه؛ تجده يفرح بهذه الطاعة التي وفقه الله إليها؛ فانشرح لها صدره وقوي بها قلبه وتلذذ لسانه بذكر محبوبه، فلربما ينسى نفسه ويغفل عن ضعفه وتقصيره ويرى كأنه قد بلغ المنزلة المرموقة وضمن رضا ربه، فإذا به يزهو بنفسه، ويحتقر من بجانبه من إخوانه وأصدقائه، وينظر إليهم في نفسه بازدراء وتنقص وأنه أفضل منهم بدرجات ومسافات؛ فهو الصائم القائم المخبت الذاكر، أما هم فالنائمون المتخمون الذين لا يعرفون لليل قياما ولا للنهار صياما، يقولون ما لا يفعلون، ويتظاهرون بما لا يبطنون، ويلهم من يوم تكع فيه الرجال وتذهل فيه المرضعات عما أرضعن من شدة الحال.

لقد أصيب هذا المتعبد بداء العجب والغرور الذي سول له أنه بمفرده قمة في العبادة واستقامة السلوك وهذا الذي حذر منه السلف كثيرا. قال أبو وهب المروزي: سألت ابن المبارك: ما الكبر؟ قال: أن تزدري الناس. فسألته عن العجب؟ قال: أن ترى أن عندك شيئا ليس عند غيرك، لا أعلم في المصلين شيئا شرا من العجب.

وربما يصل الأمر بهذا المتعبد إلى أن يتألى على الله من شدة عجبه وغروره، فعن جندب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدث أن رجلا قال: والله؛ لا يغفر الله لفلان. وإن الله - تعالى - قال: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان؟! فإني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك.

2 - وهذا طالب العلم الذي انشغل بعلوم الكتاب والسنة وأنفق ليله ونهاره في مطالعتها ومذاكرتها، وحصل له من ذلك خير عميم بالجلوس بين يدي العلماء، وثني الركب تحصيلا وسؤالا ومراجعة وتأملا في هديهم وسمتهم، وصارت لذته وفرحه بتحصيل فهم المسألة أعظم من فرحه بتحصيل المال والتلذذ بأطيب ألوان الشراب والطعام:

سهري لتنقيح العلوم ألذ لي
من وصل غانية وطيب عناق
وتمايلي طربا لحل عويصة
في الدرس أشهى من مدامة ساقي

إنها حلاوة الطاعة التي غمرت قلبه؛ مصداقا لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضى لطالب العلم، وإن طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض، حتى الحيتان في الماء، إلا أن هذه الحلاوة سرعان ما تنقلب إلى مرارة اضمحلال هذا السعي وذلك التحصيل؛ إذ يعجب الطالب بكبير عمله وجهده وبروزه من بين أقرانه؛ فيشمخ بأنفه عمن دونه، ويستنكف أن يحصل علما منهم، وربما احتقر ضعف عقولهم وقلة فهمهم؛ فهم لم يدركوا ما أدركه من أصناف شتى من العلوم، ولم يفهموا ما فهمه من أصول ومباحث مهمة وحل إشكالات ومسائل عويصة لم يتجاسر لحلها كبار المشايخ والعلماء.

والمصيبة الأعظم عندما تجد هذا الطالب الذي غرته حلاوة التحصيل وجودة العقل في فهم النصوص والمسائل؛ يجرح عالما ولا يعدله، بل يذهب بعيدا بأن يسلب منه لقب العلم والمشيخة، والأدهى من ذلك كله أن يستهزئ به أو يحرض عليه ليمنع الناس من الاستفادة منه، ثم يقف عند شواذ مسائله ودقيق أخطائه وزلاته، ثم يفتح مشوار تحصيله، وأنه لا يملك سندا متصلا في القرآن ولا في شيء من الكتب المعتمدة التي يتأتى نيل السند فيها، وحتى شهادة الدكتوراه التي حصل عليها فإنما هي لقب خال من المضمون يتزين به عند العامة ليصبح من النخبة المثقفة.. وهكذا.

والنتيجة المترتبة لهذه المقدمات أن هذا الطالب المعجب بنفسه يخرج فئاما من العلماء من دائرة العلم وأنهم ليسوا على المنهج الحق بل عندهم من البدع والضلال الشيء الكثير، ثم تصل به الحال إلى التحذير منهم ومن سماع كلامهم والتلقي عنهم، إنهم في نظره يشكلون خطرا كبيرا على الأمة بل هم أخطر على الإسلام من اليهود والنصارى؛ لأنهم يقلبون النصوص عن حقيقتها ومرادها ويفسرونها على غير مراد منزلها - سبحانه وتعالى -.

إنها آفة القراء؛ كما قال الفضيل - رحمه الله -. لقد اغترت نفس هذا الطالب التي عشش فيها الفرح بحلاوة طلب العلم فأصابها العجب فكان مصيره الهلاك ولا محالة؛ إلا أن يتغمده الله برحمة منه؛ فقد قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: الهلاك في اثنتين: القنوط والعجب.

إنها رؤية النفس وإسناد العمل إليها ورؤية المزية لها عن غيرها من الناس. قال - تعالى -: {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} [النجم: 23]؛ أي: فلا تثنوا على أنفسكم بالطهارة عن المعاصي بالكلية أو بزكاء العمل وزيادة الخير، بل اشكروا الله - تعالى - على فضله ومغفرته؛ جل شأنه، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه. وقال - صلى الله عليه وسلم -: لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أكبر من الذنوب: العجب.

قال مطرف بن عبد الله: (لأن أبيت نائما وأصبح نادما أحب إلي من أن أبيت قائما وأصبح معجبا).

وقيل لعائشة - رضي الله عنها -: متى يكون الرجل مسيئا؟ قالت: إذا ظن أنه محسن.

والمعجب أعمى عن آفات نفسه وعمله، والعمل إذا لم يتفقد ضاع، وإنما يتفقد عمله من غلب عليه خوف الله وخوف ذنوبه ولا يريد الثناء على نفسه وحمدها وتزكيتها، وربما أعجب برأيه وعقله فيستنكف عن سؤال غيره ولا يسمع نصح ناصح لنظره لمن سواه بنظر الاستحقار؛ نسأل الله السلامة والعافية.

فمن طلب العلم للعمل كسره العلم وبكى على نفسه، ومن طلب العلم للمدارس والإفتاء والفخر والرياء تحامق واختال، وازدرى الناس، وأهلكه العجب، ومقتته الأنفس: {قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها} [الشمس: 9 - 01].

إن الذي يكتب الله له الهدى والخير يضع في قلبه الحساسية والحذر والتلفت والحساب، فلا يأمن مكر الله، ولا يأمن تقلب القلب، ولا يأمن الخطأ والزلل، ولا يأمن النقص والعجز، فهو دائم التفتيش في عمله، دائم الحساب لنفسه، دائم الحذر من الشيطان، دائم التطلع لعون الله ونصره وتأييده، وهذا ابن القيم يقول: فلا أنفع للصادق من التخفف بالمسكنة والذلة والفاقة وأنه لا شيء، ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - من ذلك أمرا لم أشاهده من غيره وكان يقول: ما لي شيء ولا مني شيء، ولا في شيء، وكان كثيرا ما يتمثل بهذا البيت:

أنا المكدي وابن المكدي *** وهكذا كان أبي وجدي

وكان إذا أثني عليه في وجهه يقول: والله! إني إلى الآن أجدد إسلامي كل وقت، وما أسلمت بعد إسلاما جيدا.

3- ويسري الاغترار بحلاوة الأعمال الصالحة في كيان الجماعات والتنظيمات الإسلامية مما يحدث ذلك شرخا كبيرا في التواصل بينها وتبادل الخبرات وسد الثغرات واحترام كل منها الآخر، بل تجد أن هذه الجماعة التي بلغت في مسيرة العمل الإسلامي سنين طوالا واكتسبت خلال ذلك المشوار كما هائلا من النتائج الطيبة وهي تسعى - ولا زالت - للوصول إلى أهدافها الكبرى؛ تنسى في غمرة فرحها بما حصلته من طاعات وقربات أنها بحاجة ماسة إلى كل العاملين في الميدان الدعوي والعلمي والخيري والسياسي، وأن تمد جسور التواصل وتقيم شبكات الاتصال مع كل العاملين بنظرة المحب لإخوانه، القريب منهم بتواضعه، ولين جانبه، وحسن سلوكه، ولكن ليس شيء من هذا يحصل! بل يحصل العكس؛ إذ يظن العامل في هذه الجماعة الكبيرة أن جماعته هي الأصل وغيرها الفرع فليس للفرع إلا أن يتبع أصله ويعود إليه، وأن جماعته هي الأحق بالوصول إلى سدة الحكم؛ فهي المؤهلة لذلك تاريخا ورجالا وقيادة وفكرا وتنظيرا وعملا. فهذا مثال للجماعات التي تتبنى العمل الدعوي والعلمي والخيري والسياسي ويفترض أن تكون أنموذجا لتحقيق الأهداف الكبرى للأمة.

إننا عندما نتحدث عن الحذر من حلاوة الطاعة ليس يعني هذا أننا ننفر منها وكأنها شر يجب أن نتقيه، ولكن ذكرنا لها إنما هو تحبيب فيها وسعي للوصول إليها وثبات على منوالها؛ فالغفلة عن مثل هذه الدقائق المهمة توجب التنبيه إلى أهميتها وخطورة الاستهانة بها.

يقول الإمام الذهبي - رحمه الله -: فكم من رجل نطق بالحق، وأمر بالمعروف، فيسلط الله عليه من يؤذيه لسوء قصده، وحبه للرئاسة الدينية، فهذا داء خفي سار في نفوس الفقهاء، كما أنه داء سار في نفوس المنفقين من الأغنياء وأرباب الوقوف والترب المزخرفة، وهو داء خفي يسري في نفوس الجند والأمراء والمجاهدين، فتراهم يلتقون العدو، ويصطدم الجمعان وفي نفوس المجاهدين مخبآت وكمائن من الاختيال وإظهار الشجاعة ليقال، والعجب فوق ذلك كله..، فأنى ينصرون؟ وكيف لا يخذلون؟ اللهم! فانصر دينك، ووفق عبادك.
ـــــــــــــــــ
طه بافضل (البيان:259)

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة