أين نحن من مجتمع السلف الصالح؟

2 874

حين تقرأ في سير العلماء والأئمة ورجالات السلف، تجد العناية بالأنموذج الخاص المتميز لدى المدونين، حتى ليبدو لك لأول وهلة أن الجيل كله على هذا النسق الفريد، وأن المدينة أو بغداد أو دمشق كانت مجمع الكملة من الرجال.
حين تقرأ عن عبادتهم أو علمهم أو جهادهم يأخذك الإعجاب بالمثال، إلى حد أن تشعر أحيانا باستحالة القدوة على مستوى الفرد، أو على مستوى الجيل كله.
التدوين كان ضروريا لحفظ قامات سامقة، ولترسيم أفق بعيد "أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده" الأنعام: 90.
وأكاد أن أقول: إن الصورة الانتقائية التي نقرؤها في "صفة الصفوة" لابن الجوزي، أو "الحلية" لأبي نعيم أو "سير أعلام النبلاء" للذهبي لا تقدم الصورة الحياتية للناس جميعا.

إنها تقدم الأفضل والأكمل والأجمل، لكننا نجد في سير الصحابة أسماء كثيرة من الرجال والنساء لم ترو عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا، ولم ينقل لها فضل خاص، لكنها نالت شرف الصحبة، والواحد منهم عاش سبعين أو ثمانين سنة لم تكن كلها نسقا واحدا، وإنما كانت حالات شتى في النفس والعقل والقوة والضعف، والإيمان وضده والنشاط والفتور، كانوا بشرا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ويقع لهم الغضب والرضا والفرح والحزن، والشرة والفترة، كما صح في الحديث "لكل عابد شرة ولكل شرة فترة"كما عند الترمذي وأحمد وابن حبان وغيرهم.
وهكذا نجد في الأجيال بعدهم من القرون المفضلة، وما تلاها أعدادا من الناس هم من المسلمين أو المؤمنين، بيد أنهم كانوا تجارا أو صناعا أو إداريين أو مزارعين أو ناشطين في جانب من جوانب الحياة، وهم خلق لا يحصيهم إلا الله، وفيهم من عاش أول حياته كافرا ثم أسلم، أو جاهلا ثم تعلم، أو مغمورا ثم نبغ واشتهر بالعلم أو العمل أو العبادة أو الجهاد، أو ما سوى ذلك.

كما نجد في كل مجتمع من يقع له الخطأ، ففي المدينة قصة الرجل الذي غش في الطعام وقال له الرسول "من غش فليس مني" كما في صحيح مسلم.
والذي عافس امرأة في أقصى المدينة فأصاب منها قبلة، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فأنزل الله "أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات". فقال الرجل يا رسول الله ألي هذا؟ قال " لجميع أمتي كلهم " كما في الصحيحين.
والرجل الذي كانت تفوته صلاة الفجر، لأن نومه ثقيل، فشكته زوجه للنبي صلى الله عليه وسلم  فسأله، فقال الرجل: إنا أهل بيت قد عرف لنا ذاك لا نكاد نستيقظ حتى تطلع الشمس. فقال الرسول "فإذا استيقظت فصل" رواه أبو داود وابن حبان وأحمد والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي..

هنا لسنا بصدد جمع عثرات مجتمع ما، بل أن نفهم أنهم كانوا بشرا منساقين مع فطرتهم، مدركين أن التدين تزكية للفطرة، وتجاوب معها وليس تمردا عليها، أو خروجا عن ناموسها، يغضبون،كما غضب أبو بكر على أضيافه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :"يا أبا بكر، لعلك أغضبتهم؟ لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك" فأتاهم فقال: يا إخوتاه، أغضبتكم؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي. والقصة في الصحيحين.
وكانوا يحزنون، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في الهجرة "لا تحزن إن الله معنا" التوبة:40، وقال له مرة "غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض ألست تنصب ألست تحزن ألست تصيبك اللأواء"، رواه أحمد وابن حبان والحاكم والبيهقي.
ويقع لبعضهم ضعف، وتمر بهم المواقف، كموقف عمر في الحديبية، وقوله فعملت لذلك أعمالا كما في الصحيحين.

لم يخرجوا من عباءة بشريتهم ليكونوا ملائكة في الأرض يخلفون، لكنهم كانوا أسمى مقامات البشرية بعد النبوة، وأعلى درجات الإنسانية، وكانوا على طبقات ودرجات، وفيهم من يريد الدنيا، وفيهم من يريد الآخرة في مواقف خاصة، وإلا فهم في الجملة ممن استحبوا الآخرة على الأولى، وإن لم ينسوا حظهم من الدنيا، وتعرض لهم حالات القوة والضعف، وفيهم المخصوصون بالعلم، أو بالعبادة، أو بالدعوة، أو بالجهاد، وكثيرون لديهم أصل الإيمان ولبه، ثم هم وراء ذلك مقبلون على دنياهم وحرثهم ومصالحهم وتجاراتهم وأزواجهم وذرياتهم ومتع العيش الكريم، يأخذونها بنفس راضية وقلب صاف، وإلى جوارهم أقوام منهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم، وأقوام قعدت بهم خطاياهم وأثقلتهم ذنوبهم ولكنهم موالون للإسلام محبون لله والرسول.

وإلى هؤلاء وأولئك كان في المجتمع أخلاط من المنافقين المتسترين المتخذين إيمانهم جنة، يجتمعون على فجور وزندقة وسخرية، ولكنهم محسوبون على المجتمع، وهم من عديده وناسه، يبيعون ويشترون، ويتزوجون ويموتون ويرثون ويورثون، ويغشون مجالس الناس، يرتاب فيهم قوم، ويحسن الظن بهم آخرون.. ويتوب منهم أقوام، وينشغل بالمال والحياة آخرون، ويموت على الفتنة منهم من لم يرد الله به خيرا، وكان حذيفة يتلو هذه الآية "فقاتلوا أئمة الكفر" التوبة: 12، ويقول: لم يبق من أصحاب هذه الآية إلا ثلاثة...كما في البخاري ومسلم..
هكذا هي المجتمعات إذن، فهل يفيدنا هذا في تصور ما عليه مجتمعاتنا الآن، وما يمكن أن تكون عليه في المستقبل؟
________________
 جريدة الوطن القطرية 26/4/2009م

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة