الطاغية والطغيان و"جهاز الأوتاد"

2 974

في كتابه "المفردات في غريب القرآن" عرف الراغب الأصفهاني "الطغيان", بأنه "تجاوز الحد في العصيان, ويقال "طغي الماء" إذا جاوز الحد المعقول المعروف. وقوله تعالي: (فأهلكوا بالطاغية) (الحاقة 69) أي: الطوفان الذي جاوز الحد. والطاغوت, هو كل متعد وكل معبود من دون الله, ويستعمل في الواحد والجمع.
أسباب ظاهرة الطغيان..
وقد كتب كثير من علماء النفس والاجتماعيات بحوثا ودراسات عن نفسية الطغاة, والأسباب التي تجعل من حاكم ما طاغوتا ضاريا.. وأغلب هذه الدراسات - إن لم يكن كلها - تعتبر دراسات ميدانية تستخلص تنظيراتها وقواعدها من شخصيات الطغاة قديما وحديثا. من هنا جاءت هذه المباحث علي حظ كبير من المصداقية.
وناقشت هذه الدراسات الأسباب والعوامل التي تجعل من الإنسان طاغية. ووصلوا إلي أنه من الصعب - بل من المستحيل - تعليل ظاهرة "الطغيان" بعامل واحد, أو علة واحدة. إنما ترجع إلي عدد من العوامل المتشابكة, المعقدة, ولكنها تتفاوت في التأثير والتوجيه.
فهناك الطاغية الذي صنعته طريقة التربية الغالطة فعاش طفولة قاسية, مطحونا بظلم الأهل والأبوين, فينشأ مسكونا بالتطلع إلي الانتقام الذي تغذيه عقدة الشعور بالاضطهاد، فإذا ما جاءته فرصة الحكم, تحكم وظلم, وقصف أعناق العباد, ووجد في ذلك متعة, ولذة تعوضه عن عذابات الطفولة ومرارة الماضي.
وقد يولد الطاغية مسكونا بعقدة العظمة أو التعاظم, مما يدفعه لبناء مجده الشخصي بأي ثمن, وبأي حساب, ولو جاء في صورة ممسوخة شاذة مشوهة, وفي سبيل إشباع هذه الشهوة العارمة, فلتهلك الأمة عن جهل, أو عن بينة, المهم أن يصعد.. ويصعد.. ويعلو.. ويعلو, ولو علي جبل من الجماجم. وتبلغ النرجسية بالطاغية - في هذه الحال - إلي درجة عبادة النفس وتوثين الذات, كما أعلن فرعون في قومه (...ما علمت لكم من إله غيري). (القصص 38) .
ومن أهم عوامل "تخليق" الطاغية: غفلة الأمة, وتراخيها, وضعف إحساسها بذاتها, وانعدام تقديرها للمسئولية, فما كان الحاكم ليستبد إلا بأمة تملك "قابلية الخضوع والخنوع والاستسلام" حتي تري من الظلم ألا تظلم ومن الضيم ألا تضام.
وقد تمثل هذه الطبيعة "الجانب السلبي" في أخلاقيات هذه الأمة, ولكن ثمة طوابع وسلوكيات إيجابية ناشطة لها أثرها الأبلغ والأعمق في تخليق الطاغية, وتماديه في الطغيان, وتماديه في التمادي, وذلك حينما نري الأمة تؤيد الطاغية, وتحتفي به, وتمجد أخطاءه علي أنها فتح مبين في عالم الحكمة والسياسة, والنهوض والتقدم, ويصبح النفاق في حياتها دينا وديدنا. وذلك للتقرب من الطاغية, والانتفاع بجواره, والأكل علي مائدته, ولو كان فتاتا مغموسا في ماء الذلة والهوان.
وقد عرض "ديورانت" في كتابه "قصة الحضارة" كيف أن نفاق الشعب هو الذي جعل من "نيرون" طاغية, مع أن نيرون - كما قال عنه أستاذه الفيلسوف سنكا - كان طالبا مجدا, وكان في بداية عهده رقيق النفس, رحيم القلب, شفوقا علي الرعية, حتي إنه - لما طلب إليه مرة أن يوقع وثيقة بإدانة أحد المجرمين - قال في حسرة "ليتني لم أتعلم قط الكتابة". وقد خفض الضرائب الباهظة, أو ألغاها إلغاء تاما. وخصص معاشات دائمة للشيوخ المعوزين. ثم جاءت بطانة السوء, فنافقته, واستشري النفاق في الشعب كله حتي وثنوه وألهوه, ومسخوا طبيعته السوية النقية.
وأهم هذه العوامل جميعا "الكفر بالله", ومنازعته سلطانه, وهذا الكفر يترتب عليه إنكار الطاغية اليوم الآخر, وما فيه من ثواب وعقاب, أي أنه يعتبر نفسه القوة العلوية الوحيدة, فمن حقه أن يعربد كما يشاء, ويستبيح الدماء والأعراض والأموال كما يريد.
في كل عصر طغاة:
واستقراء التاريخ الإنساني يضع أيدينا علي حقيقة لم تتخلف وهي: أن التاريخ كله لم تخل أية مرحلة من مراحله من "طاغية" أو طغاة.. قد يختلفون في الشكل والصورة والوسائل, ولكن الجوهر, والملامح الأساسية - نفسيا, وسلوكيا - واحدة لا تتبدل, ولا تتغير.
ولعل "فرعون" هو الصورة النموذجية "للطاغية" علي مدار التاريخ الإنساني, حتي صار اسمه مصدرا لاشتقاق الأفعال والصفات. فمن الاستعمالات الدارجة قولهم "فلان تفرعن" أي صار ظالما جبارا مفتريا ميت الضمير. ويقال "الناس فرعنوا الحاكم" أي صاروا ينافقونه, ويباركون مظالمه وخطاياه, حتي عميت بصيرته, وصار - في مظالمه, ومآثمه, وجبروته وغروره - كفرعون موسي.
فرعون في القرآن الكريم
للاعتبار والاتعاظ أسهب القرآن الكريم في رسم أبعاد شخصية فرعون, فزيادة علي ادعائه الألوهية نري "البعد الاجتماعي" لشخصيته في قوله تعالي: (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين) (القصص:4( .
فله مطلق الحرية في التصرف في العباد: قتلا وسبيا, وسجنا, واغتصابا, بالصورة التي يراها, بوصفه (ربهم الأعلي) الذي ما علم أن لهم إلها غيره.
وهذا الطغيان لا يتوقف عند الإجرام الحسي, بل يمتد إلي الجانب العقدي, الذي يرتبط "بجوانية" الإنسان عقلا وشعورا. فعليهم ألا يعتقدوا, ويعتنقوا إلا ما يعتقد, ويعتنق, ولا يؤمنوا إلا بما يري هو أن يؤمنوا به: فالسحرة الذين جمعهم فرعون لمواجهة موسي عليه السلام, ما جاءوا إلا طمعا في المال والدنيا: {وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين} [الأعراف: 311, 411].
وترتفع معنوياتهم بهذا الوعد المادي, وتنفتح قلوبهم للطاغية حتي إنهم ليقسمون بعزته: ) (وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون) [الشعراء: 44].
وكما يحدث في كل عصر - وخصوصا في مجتمعاتنا الحديثة - نري الطاغية - من مكانه الفوقي وتشجيعا لأنصاره - يحقر من أعدائه, ويستهين بهم, فيصف موسي ومن معه من المؤمنين بقوله: {إن هؤلاء لشرذمة قليلون} [الشعراء: 45].
وحينما يظهر للسحرة وجه الحق يعلنون إيمانهم برب موسي, ويعجب فرعون - وهو رب القوة, وزعيم الأغلبية - كيف لم يستأذنه هؤلاء "المارقون" قبل أن يعلنوا إيمانهم!!!؟ كان هذا منطقه, أما منطق الإيمان فقد جعل من هؤلاء السحرة خلقا آخر. إنه مشهد يتكرر بكل عناصره في كل عصر: (فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى) (طـه:71 ( .
وأعود فأقول: إن "الفرعونية" - بكل عناصرها - لها وجودها في كل عصر.. قد تختلف الأشكال والأساليب, ولكنها تحمل في بطائنها نهايتها القاصمة. وإن عادت في كل عصر بثوب جديد فإن النصر بعد كل محنة ومعاناة ومواجهة يكون لفئة الحق والإيمان.
الأوتاد في الرباعية الفرعونية
تحدث القرآن عن فرعون وهامان والجنود في آيات متعددة منها قوله تعالي: (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين )القصص: 8 . وفرعون كان يقف علي رأس النظام "الذي يتحكم في كل أموره حتي العقدي - كما بينا آنفا,
أما هامان فكان وزيره الأول, أي علي رأس السلطة التنفيذية, يتلقي الأوامر من فرعون فينفذ دون مراجعة أو نقاش حتي لو كان المطلوب صعبا أو مستحيلا, كما نري في الآيات الآتية: (وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب) (غافر:36) (وانظر القصص: 83( .
فرعون, وهامان, وجنودهما.. أسماء لا خلاف علي مسمياتها ومفاهيمها, ولكن يأتي الخلاف في كلمة أخري وهي "الأوتاد". ففرعون هو الوحيد من الطغاة الذين وصفهم القرآن بأنه (ذو أوتاد) وذلك في موضعين هما:
(كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد)ص 12
(وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد) [الفجر: 10, 11]
وقد اختلف المفسرون في معني "الأوتاد" علي النحو التالي:
1 - الأوتاد: الأبنية المحكمة.
2 - الأوتاد هي الأهرام, أو المسلات المصرية القديمة.
3 - الأوتاد هي الأوتاد الحقيقية كان فرعون يأمر بدق أربعة منها في الأرض متباعدة, ويشد إليها من لا يرضي عنه فرعون بحبال قوية من يديه ورجليه, وتعلق عليه الحيات والثعابين والعقارب تلدغه وتنهشه.
4 - الأوتاد: الملك القوي, والعز الثابت, والأمر المستقر.
5 - الأوتاد: أعمدة كانت تدق في الأرض, وتركب عليها وبها حبال يلهو بها فرعون.
6 - الأوتاد: القوة والبطش.
7 - الأوتاد: الجموع الكثيرة, أو الجنود, وأطلق عليهم "الأوتاد" لأن بعضهم يشد بعضا, كالوتد يشد البناء, ولأنهم يقوون أمر الملك, كما يقوي الوتد البيت.
وبعض هذه التعريفات يفتقر إلي مؤكدات تاريخية لا نملكها حاليا, كتفسير الأوتاد بالأهرام, فالمعروف أن بناة الأهرام المشهورة ثلاثة فراعين ليس بينهم فرعون موسي.
وبعضها لا يتسق مع بلاغة القرآن كتفسيرها بأنها حبال تشد بأوتاد يلهو بها الملك. وبقية التفسيرات لا يرفضها العقل ومنطق اللغة. ولكن وصف فرعون والأوتاد بأنهم طغوا في البلاد, يلزمنا تفسير "الأوتاد" تفسيرا بشريا, أي أنهم "جهاز بشري" من أجهزة الدولة, وأن رجال هذا الجهاز (جهاز الأوتاد) أعلي سطوة من الجنود, وأدني نفوذا من فرعون, يستأنس لذلك "بإضافتهم" إلي فرعون "شخصيا" دون تبعية لغيره كهامان مثلا, كما أن "الأوتاد" إذا ذكرت لا يذكر معها - في السياقة القرآنية - لا هامان, ولا الجنود.
وهذه "الخصوصية" والتبعية المباشرة لفرعون تجعلنا نفترض أن هذا الجهاز "جهاز الأوتاد" كان جهاز المهام الصعبة التي يري الملك أن إنجازها ضرورة لحماية العرش, وأعتقد أنه كان الجهاز الذي يقوم بالتحسس والتجسس علي الشعب وأجهزة الدولة, فهو عين الملك التي ترصد الحركات والسكنات في كل مكان كجهاز المخابرات, وأمن الدولة, والمباحث, والحرس الملكي الذي يذكرنا بالحرس الجمهوري العراقي, فهو فصيل - بل أقوي فصيل - في الجيش العراقي, ومع ذلك يذكر بصيغة مستقلة, فيقال الجيش العراقي, والحرس الجمهوري, وأعتقد أن "جهاز الأوتاد" كان هو الجهاز المنوط به تذبيح الذكور من الأطفال, وغير ذلك من الجرائم التي يأمر بها فرعون.
وتعذيب المغضوب عليهم بالأوتاد والحبال المشدودة  وكل أنواع التعذيب ما هو أشد وأنكي علي أيدي "أجهزة الأوتاد" في وقتنا الحاضر في كثير من أصقاع الدنيا ، ونحن ندعو فراعنة عصرنا أن يقرءوا التاريخ ليأخذوا منه الدروس والعبر والعظات . وإلا فلينتظروا الماحقة ، ومصيرا كمصير الفراعنة السابقين .

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة