أعرابي في المسجد

0 2107

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيا بال في المسجد ، فثار إليه الناس ليقعوا به ، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( دعوه وأهريقوا على بوله ذنوبا من ماء - أو سجلا من ماء - ؛ فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ) رواه البخاري .

معاني المفردات

فثار: هاجوا عليه .

ليقعوا به: ليؤذوه بالضرب ونحوه.

ذنوبا: دلوا فيه ماء.

أهريقوا: صبوا.

تفاصيل الموقف

تستقبل المدينة النبوية كل يوم زوارها ليلا ونهارا من كل حدب وصوب، ويتنوع هؤلاء الزوار في مقاماتهم وحاجاتهم، ما بين تاجر يريد عقد صفقة تجارية، ومسافر جاء لزيارة أرحامه وأصهاره، وأعرابي حملته الحاجة وأجبرته الفاقة إلى القدوم للتزود بالمتاع والأقوات، وغيرهم من صنوف الناس.

وكان من هؤلاء الزوار أحد الأعراب الوافدين إلى المدينة بين الحين والآخر، وصلته دعوة الإسلام وهو في البادية فوافقت فطرة سليمة وقلبا صافيا فانضم إلى لوائها، ودخل في حياضها.

وبينما هو يطوف في سكك المدينة إذ أبصر مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاشتهى أن يصلي ركعتين فيه، قبل أن يغادر إلى بعض شؤونه، فدخل المسجد ووقف مصليا على مقربة من رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه.

ولما انتهى من صلاته تذكر نعمة الله عليه بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، فلولاه لظل على جاهليته طيلة عمره، فرفع يديه إلى السماء ودعا عجبا: "اللهم ارحمنى ومحمدا ، ولا ترحم معنا أحدا"!.

دعاء مجحف ورجاء ظالم يقفل أبواب الرحمة الإلهية التي وسعت كل شيء، وسرت مشاعر الاستنكار بين جلساء النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهم ينظرون إليه صلوات الله وسلامه عليه ينتظرون ردة فعله، لكنه رسول الله الذي امتد حلمه واتسع صدره لأخطاء الناس وجهالاتهم، فهو يعلم أن هذا الأعرابي وأمثاله إنما يتصرفون على سجيتهم وطبيعتهم التي اكتسبوها من قسوة الحياة في البادية وشدتها، ودواء الجهل لا يكون إلا بالعلم والتعليم، فقال له عليه الصلاة والسلام : (لقد حجرت واسعا) أي: لقد ضيقت واسعا.

 قام الرجل من مكانه، وبينما هو يتهيأ للخروج إذ أحس برغبة في قضاء حاجته، وعلى سجيته مرة أخرى توجه إلى ناحية المسجد وشرع في إراقة الماء.

ولئن تحمل الصحابة الكرام جهالات الرجل في أقواله، فإن تحمل مثل هذا الفعيل الشنيع ليس بمقدور، خصوصا إذا نظرنا إلى ما ينطوي عليه من امتهان بالغ لحرمات بيت من بيوت الله تعالى، فتواثبوا ليوسعوه ضربا، ويلقنونه درسا، لكن إشارة صارمة من النبي -صلى الله عليه وسلم- أوقفتهم عن فعل ذلك، حيث قال لهم: ( دعوه وأريقوا على بوله ذنوبا من ماء) ، ولكم كان الموقف قاسيا على الصحابة وهم ينظرون إلى الأعرابي وينتظرونه كي يفرغ من شناعته، حتى صار للحظات الانتظار ثقل بالغ على نفوسهم. 

وبعد أن انتهى الأعرابي ناداه النبي -صلى الله عليه وسلم- وسأله : (ألست بمسلم ؟) فقال له : "بلى!"، قال : (فما حملك على أن بلت في المسجد ؟) ، فقال له صادقا: "والذي بعثك بالحق، ما ظننت إلا أنه صعيد من الصعدات فبلت فيه" رواه أبو يعلى ، فقال له عليه الصلاة والسلام معلما ومربيا في جواب ملؤه الرحمة والشفقة، واللطف في العبارة، : ( إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن) متفق عليه.

ولقد أثر هذا الموقف على نفس الأعرابي تأثيرا بالغا، ونجد ذلك جليا في قوله الذي أثر عنه: "..فقام النبي صلى الله عليه وسلم إلي بأبي هو وأمي، فلم يسب، ولم يؤنب ولم يضرب" رواه أحمد .

وهكذا هي أخلاق النبوة رحمة وهدى، وتلطفا وشفقة، ليضرب لنا أروع الأمثلة الدعوية والتربوية ويتمثل لنا حكمة الدعوة قولا وعملا.

إضاءات حول الموقف

"إن الله تعالى يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف" هذا هو الدرس الأول الذي نتعلمه من هذا الموقف العظيم، فالرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه، كما صح ذلك عن المعصوم -صلى الله عليه وسلم-، ولقد كان هذا الخلق النبيل جانبا من جوانب كمالات النبي عليه الصلاة والسلام التي أسر بها قلوب من حوله على اختلاف طباعهم  وتنوع مشاربهم، قال الله تعالى: { فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك } (آل عمران: 159).

ومن الواضح أن الأعرابي عندما وقعت منه المخالفة في الدعاء، والمخالفة في مكان قضاء الحاجة، إنما كان دافعه إلى ذلك جهله بأحكام دينه، من أجل ذلك لم يعنفه النبي -صلى الله عليه وسلم- وإنما أحسن إليه وأدبه بأرفق خطاب، ومن أجل ذلك أيضا كانت معاملته عليه الصلاة والسلام للأعراب تختلف عن معاملته للمقربين من صحابته.

وفائدة أخرى تتعلق بموقف النبي -صلى الله عليه وسلم- من منع الصحابة من الوقوع بالرجل أو الإساءة إليه، لأنهم إن فعلوا ذلك ترتب على فعلهم العديد من المفاسد، أولها: أن الرجل قد يذعر فيقوم من مكانه ويتسبب في توسعة مكان النجاسة مما يصعب معه تطهيرها أو الاهتداء إلى مكانها، وثانيها: أن ثوبه قد تصيبه النجاسة جراء قيامه المستعجل، وثالثها: أن توقفه عن إكمال حاجته قد يضره لاحتقان الماء في المثانة والعضلات القابضة، ورابعها: أن الرجل قد تنكشف عورته أثناء هذه اللحظات، وخامسها: أن الرجل قد تصيبه ردة فعل فينسب قسوة الصحابة إلى الدين فينفر منه. 

من هنا كان الموقف الحكيم الذي أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- صحابته أن يتركوه حتى يفرغ من حاجته، ليعلمنا قاعدة ارتكاب أخف الضررين، ثم الأمر بإزالة هذه النجاسة عن طريق صب الماء الكثير الذي يحيل النجاسة ويمحوها.

وربما يستشكل البعض سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم- الرجل بقوله: (ألست بمسلم ؟) بالرغم من كونه قد رآه هو وأصحابه يصلي ركعتين في المسجد، والجواب أن السؤال هنا ليس محض استفهام بل هو لتقريره بخطأ ما أقدم عليه وبيان مناقضته لأخلاق المسلمين وما يقتضيه إيمانه من تعظيم الشعائر والمقدسات.

والحاصل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قدم لنا درسا بالغ الأهمية في أحوال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعرفة طبائع الناس ومراعاة نفسياتهم، لتظل الذكرى الطيبة والمشاعر الجميلة في نفوس المدعوين وما يترتب عليه من قبولهم للحق والهدى.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة