مراقبة الله في الخلوات

12 1383

من السهل بمكان أن يحسن الإنسان في الجلوات، وأن يتجمل أمام نواظر الناس، وأيا ما كان الباعث نفاقا، أو رياء، أو حفظ عرض، أو صيانة لوجاهة، اودرءا لألسنة الخلق، أو حفظا للمروءة ، .. البواعث كثيرة وهي بلا شك معينات للمرء على ذلك ما دام عنده عقل راجح.

لكن أعظم من حفظ الجلوات حفظ الخلوات، وأجمل من الإحسان في الظاهر الإحسان في الباطن، وأكبر من أن تحفظ ما بينك وبين الناس أن تحفظ ما بينك وبين الله حيث لا يراك غيره ولا يطلع عليك سواه.

وهذا أمر عظيم وخطب جليل، وشيء عزيز بين الناس، بل هو أعز الأشياء، كما قال الإمام الشافعي – رحمه الله -: أعز الأشياء ثلاثة: الجود من قلة، والورع في خلوة، وكلمة الحق عند من يرجى ويخاف".

ويكفي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأله ربه ويقول: "وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة".

وقد أوصى بذلك أبا ذر رضي الله عنه حين قال له: "أوصيك بتقوى الله في سر أمرك وعلانيته". ووصى جميع المؤمنين برعاية خلواتهم وجلواتهم فقال عليه الصلاة والسلام : " اتق الله حيثما كنت".

وبهذه الوصية كان يوصي السلف بعضهم بعضا: كتب ابن سماك لأخ له: أما بعد.. فأوصيك بتقوى الله الذي هو نجيك في سريرتك، ورقيبك في علانيتك، فاجعل الله منك على بال في كل حال في ليلك ونهارك، وخف الله بقدر قربه منك وقدرته عليك، واعلم أنك بعينه ليس تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره، ولا من ملكه إلى ملك غيره، فليعظم منه حذرك، وليكثر منه وجلك.. والسلام .

وقال أبو الجلد: أوحى الله إلى نبي من أنبيائه: قل لقومك ما بالكم تسترون الذنوب من خلقي وتظهرونها لي؟! إن كنتم ترون أني لا أراكم فأنتم مشركون بي، وإن كنتم ترون أني أراكم فلم تجعلوني أهون الناظرين إليكم ؟!

ولذلك لما قال رجل لوهيب ابن الورد : عظني ، قال : اتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك.

يا عبد الله إنك إذا خلوت بمعصية الله فما أنت إلا أحد رجلين: إما رجل يعلم أن الله لا يراه ولا يعلم بحاله، فهذا كافر بالله العظيم لإنكاره علم الله تعالى المحيط بكل شيء، وإما أنك تعلم أنه يراك ومع هذا تجترئ على معصيتك فأنت والله جرئ.

وقد أخبرك الله أنه معك ومطلع عليك وشاهد على ما ترى وتسمع وتقرأ وتفعل لا يغيب عنه شيء من أمرك في سر أو علن أو ظاهر أو باطن، وإنما أخبرك بذلك ليكون عونا لك على مراقبته قال تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانواثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم}(المجادلة:7)، وقال: (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا)(النساء:108)،  (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما) (طـه:110) ، (يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور)(التغابن:4) .. وقال في سورة الحديد: {وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير}، وفي سورة النساء: {إن الله كان عليكم رقيبا}(النساء:1)، وفي سورة الممتحنة: {وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم}.. إلى آخر هذه الآيات. كل هذا لتخافه بالغيب وتستشعر معيته لك فتصون خلوتك كما تصون جلوتك..

سئل الجنيد: بم يستعان على غض البصر؟ قال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى ما تنظر إليه.

كان الإمام أحمد ينشد :
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل .. .. خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغـــفل ســــاعـة .. .. ولا أن ما تخفيه عنه يغيب

وكان ابن السماك يقول :
يا مدمن الذنب أما تستحي .. .. والله في الخلوة  ثانيكا
غــرك  من ربك  إمهـاله .. .. وستره طول مساويكا

فمن تحقق له هذا المقام وصار له حالا دائما وغالبا، كان من المحسنين الذين يبدون الله كأنهم يرونه، وصار من المحسنين (الذين يجتنبون كبائر الأثم والفواحش إلا اللمم)(لنجم:32) .

وصار من المحسنين، الذين يستحقون أن يكون الله معهم بمعيته الخاصة . فـ {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة