العلاقة بين مهمَّة الداعية وصفاته

0 862

إن كل مهمة - بحسب طبيعتها - تقتضي للنجاح فيها، أن يكون القائم بها متصفا بمواصفات، أو مؤهلا بمؤهلات تمكنه من القيام بها على أكمل وجه. فالعلاقة وطيدة بين المهمة ونوعية المؤهلات التي تقتضيها، ولذلك فقـد يصلح شخص ما للقيـام بمهمة معينة، ولا يصلح لمهمة أخرى؛ وقد ينجح في مهمة تربوية تعليمية، ولا ينجح في مهمة إدارية.

ومن النصوص القرآنية التي نؤصل بها للعلاقة بين المهمة والمؤهلات، آيات من سورة البقرة، نقلت لنا النقاش الذي دار بين ملأ من بنـي إسـرائيل من بعـد موسـى - عليه السلام - ونبي بعثه الله إليهم؛ حيث طلبوا منه أن يجعل عليهم ملكا، يقودهم في قتالهم ضد أعدائهم، فأخبرهم أن الله - عز وجل - اختار لهم طالوت ملكا، فتعجبوا من تعيينه ملكا عليهم، رغم أنه لا يملك المؤهلات لهذا المنصب الخطير في نظرهم، والتي تتمثل - أساسا - في أن يكون من أكثرهم ثروة ومالا، فأخبرهم نبيهم أن المهمة المنوطة به تقتضي مؤهلات ذات صلة بها؛ فالقائد العسكري يشترط فيه أن تكون له دراية بفنون القتال، وقدرات بدنية كبيرة، واتصاف ببعض الصفات اللازمة لهذه المهمة، ولا علاقة للنجاح في هذه المهمة بكونه غنيا أو فقيرا.

القرآن يؤكد:
وقد سجل القرآن الكريم لنا هذا النقاش بين بني إسرائيل ونبيهم في قوله - تعالى -: {ألم تر إلى الـملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالـمين * وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الـملك علينا ونحن أحق بالـملك منه ولم يؤت سعة من الـمال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والـجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم} [البقرة: ٦٤٢ - ٧٤٢].

وإلى هذه العلاقة بين المهمة، وما تقتضيه من مواصفات ومؤهلات، أشار يوسف - عليه السلام - حين طلب من الملك أن يوليه خزائن الأرض، فركز على صفتين أساسيتين لا بد منهما للنجاح في القيام بهذه المهمة، وهما: الأمانة والعلم، ذكرهما القرآن على لسانه - عليه السلام - في قوله - تعالى -: {قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم}. [يوسف: ٥٥]

لقد حرصنا على بيان هذا المعنى، وإيراد الشواهد عليه، رغم ما يبدو للناظر لأول وهلة أنه واضح لا يحتاج إلى بيان واستدلال، بسبب ما يلاحظه الدارس لكتب فقه الدعوة عند طرقها لموضوع صفات الداعية، من غفلة عن العلاقة الموجودة بين صفات الداعية والمهمة التي هو مكلف بها، واكتفاء بسرد مجموعة كبيرة من الصفات تمثل صفات المؤمنين عامة وليست صفات خاصة يتميز بها رجل الدعوة؛ حيث نجدهم يسهبون في الحديث عن صفات من مثل: العلم، الإخلاص، الصبر... وغيرها من الصفات التي يكتفى في الغالب بتناولها تناولا عاما، بعيدا عن ربطها بمهام محددة يقوم بها رجل الدعوة.

كما حرصنا على بيان هذا الأمر؛ لما يلاحظه المتابع لواقع العمل الدعوي، من عدم مراعاة بعض الدعاة للمؤهلات التي تقتضيها بعض المهام التي يتقدمون إليها، واعتقادهم أن نجاح الواحد منهم في ميدان الخطابة، أو كسبه لقدرة التأثير بكلامه، تجعله مؤهلا للنجاح في ميادين أخرى للعمل الدعوي، تقتضي مهارات فنية وتخصصية أخرى تتجاوز مهارة الحديث الجيد إلى الناس.  

وفي تقديرنا أن التناول السليم لموضوع صفات الداعية ينبغي أن يستحضر فيه المهمة الدقيقة للداعية، والربط المحكم بين هذه المهمة وما تقتضيه من صفات ومؤهلات.

والمعلوم أن مهمة الداعية تتمثل في القيام بوظائف ثلاث: البلاغ، والتزكية، والتنفيذ. وكل وظيفة من هذه الوظائف تحتاج إلى نوع خاص من الكفاءات أو المؤهلات أو الصفات، يبعد أن تتوفر في شخص واحد مهما كانت قدراته ومهاراته  باستثناء الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بل إن من الأنبياء - عليهم السلام - من كان يرى عدم امتلاكه بعض المؤهلات التي تقتضيها وظيفة من وظائف دعوته، فسأل الله أن يعينه بمن يملك مؤهلات قوية ذات صلة بتلك الوظيفة؛ فهذا موسى - عليه السلام - يسأل ربه أن يشد أزره بأخيه هارون لما يمتلكه من قدرة عالية على البيان يرى - عليه السلام - أنـه لا يمتلكهـا، كمـا يدل علـى ذلـك قـوله -  تعالى - على لسانه: {وأخي هرون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون} [القصص: ٤٣].

قد يقول القائل: ألم يكن هارون - عليه السلام - أولى من موسى - عليه السلام - بالرسالة باعتبار فصاحته وبيانه؟
والجواب: أن الوظيفة الأساسية التي اصطفي موسى - عليه السلام - للقيام بها، والمتمثلة في إنقاذ بني إسرائيل وقيادتهم، كانت تقتضي مواصفات تتجاوز حدود القدرة على البيان، ويمكن أن نفهم ذلك بالتأمل في عدم استطاعة هارون - عليه السلام - التحكم في بني إسرائيل عند ذهاب موسى إلى لقاء ربه، وتمكن السامري من إضلالهم.

وفي موقف آخر يسعى موسى (النبي) - عليه السلام - إلى (الرجل الصالح) الذي آتاه الله من لدنه علما؛ ليكتسب نوعا من العلم والنظر كان في أمس الحاجة إليه للنجاح في دعوته، فبحث عنه حتى وصل إليه، وقبل أن يضع نفسه منه – وهو النبي المصطفى من الله عز وجل - موضع التلميذ من أستاذه، ويقبل جميع شروطه ليقبل الرجل الصالح تتلمذه على يديه، كما يؤكد ذلك قول الله - تعالى -: {هل أتبعك على أن تعلـمن مما علـمت رشدا} [الكهف: ٦٦].

ونستطيع أن نستشف من الآيات التي سجلت لنا مواقف موسى - عليه السلام - مع هذا الرجل الصالح أنه على الداعية العناية بعلم النظر في تقدير الأعمال إلى المآلات التي تؤول إليها الأمور، وعدم الاكتفاء بالنظر إلى معطيات الحاضر.

وفي تربية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه، وفي إفادتهم من مهاراتهم في خدمة الدعوة والمجتمع، ما ينبهنا إلى مراعاته - صلى الله عليه وسلم - لما تقتضيه المهام المختلفة من مؤهلات؛ فكان في كل موقف، وإزاء كل مهمة يقدم من أصحابه من يمتلك المؤهلات المناسبة لتلك المهمة.

وكمثال على ذلك يمكن أن نذكر تقديمه لخالد بن الوليد – وهو ممن تأخر إسلامهم - في قيادة جيش المسلمين، بسبب حنكته ومهاراته القتالية، ورفضه تولية أبي ذر – وهو من السابقين الأولين - الإمارة، مع طلبه لها، وقوله له - صلى الله عليه وسلم - بكل صراحة وصدق: يا أبا ذر! إنك ضعيف، وإنها أمانة.

وخلاصة ما نريد قوله:
إن صفات الداعية ومؤهلاته لا يمكن أن تتنـاول كموضوع نظري، بعيدا عن الوظائف التي يطلب من الداعية القيام بها؛ فللدعوة في كل وظيفة من وظائفها الثلاث مؤهلات ينبغي أن تتوفر في المتقدم للقيام بها:
فلوظيفة البلاغ حين تكون خطابة، مؤهلاتها: من حد أدنى من المعارف الشرعية والعامة، وفصاحة، وبيان، وحين تكون عملا إعلاميـا أيضا لها مواصفات فنية أخرى لازمة للنجاح في هذا الميدان.

وللتربية - كوظيفة ثانية من وظائف الدعوة - مؤهلاتها الخاصة؛ معرفية كانت أم روحية أم نفسية وأخلاقية.

كما أن وظيفة التنفيذ في ميادينها الكثيرة تتطلب مؤهلات مناسبة لهذه الوظيفة ولتلك الميادين.

وحين ننظر إلى موضوع صفات الداعية من هذه الزاوية، فإننا سنتنبه إلى صفات أساسية مهمة، يغفل عنها كثير ممن كتبوا في الموضوع؛ لأن تصورهم للدعوة لم يتجاوز حدود مهمة البلاغ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة البيان: 274

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة