لست من أهل النار

4 1566

عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- افتقد ثابت بن قيس رضي الله عنه، فقال رجل: يا رسول الله أنا أعلم لك علمه. فأتاه فوجده جالسا في بيته منكسا رأسه، فقال: ما شأنك؟ فقال: شر. كان يرفع صوته فوق صوت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد حبط عمله وهو من أهل النار، فأتى الرجل فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال كذا وكذا، فرجع الرجل المرة الآخرة ببشارة عظيمة فقال: ( اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة ) متفق عليه واللفظ للبخاري .

وفي رواية مسلم أنه لما نزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبى} (الحجرات:2) إلى آخر الآية جلس ثابت بن قيس رضي الله عنه في بيته وقال: أنا من أهل النار. واحتبس عن النبى -صلى الله عليه وسلم-، فسأل النبي عليه الصلاة والسلام سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال: ( يا أبا عمرو ما شأن ثابت أشتكى؟) . قال سعد : إنه لجاري وما علمت له بشكوى، فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال ثابت : أنزلت هذه الآية، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنا من أهل النار، فذكر ذلك سعد للنبى -صلى الله عليه وسلم-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( بل هو من أهل الجنة ) .

معاني المفردات

افتقد: أي لم يجده في القوم .

منكسا رأسه: ناظرا إلى الأرض دلالة على الحزن.

حبط: ذهب أجره وبطل عمله.

 

تفاصيل الموقف

هناك من الصحابة الكرام من إذا ذكر اسمه ذكر معه لقبه الذي اشتهر به وعرف عنه، فإذا قيل: أبو بكر فهو الصديق، وإذا قيل: أبو عبيدة فهو أمين هذه الأمة، وقل مثل ذلك عن الفاروق عمر وشاعر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حسان بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين، ولكن قد يخفى على البعض معرفة من لقب بـ(خطيب) النبي عليه الصلاة والسلام!

 إنه أبو محمد ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه، الخزرجي نسبا والمدني وطنا، ذو القلب الندي والصوت الجهوري الشجي، آسر الناس بقوة كلماته وروعة بيانه، وبلاغة ألفاظه وجمال أسلوبه.

ولقد ذاع صيت ثابت بن قيس رضي الله عنه واشتهر خبره حتى علمه القاصي والداني، ويوم أن لحق بركب المؤمنين اصطفاه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- خطيبا كما اصطفى حسان بن ثابت رضي الله عنه ليكون شاعر الإسلام.

 

وكثيرا ما كانت الوفود تقدم على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في المدينة، فتتفاخر أمامه بخطبائها وشعرائها، فلا يقوون على المبارزة الأدبية مع ثابت وحسان رضي الله عنهما.

وشاء الله سبحانه وتعالى أن يتنزل الوحي بالآية الكريمة: { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} (الحجرات:2)، فيضطرب لها فؤاد خطيب رسول الله –صلى الله عليه وسلم-؛ فقد كان يعلم من نفسه علو نبرة الصوت الذي مكنه من الوقوف في المحافل والمجامع، لكن الآية تنهى بوضوح أن تعلو أصواتهم صوته، وكلامهم كلامه، تأدبا معه وإجلالا له، وإذا كان الأمر كذلك فهو هالك لا محالة، ومهدد بفساد عمله، وحبوط أجره.

وهكذا أسقط ثابت بن قيس رضي الله عنه الآية على نفسه وتعامل معها وكأنها تخاطبه مباشرة، ولم يجد مخرجا من هذه المعضلة إلا بأن يقلل لقاءاته برسول الله – صلى الله عليه وسلم-  قدر ما يستطيع، ولا يكون ذلك إلا بلزوم البيت وعدم الخروج منه إلا لضرورة أو صلاة مكتوبة.

وتمر الأيام، وتزداد العزلة، ويفتقده رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ويسأل عنه أصحابه، فينبرى سعد بن معاذ رضي الله عنه سيد الأوس لمهمة التقصي، فقد كان جاره وأقرب الناس إليه.

وما أن يدخل سعد بن معاذ رضي الله عنه على ثابت حتى يبصر جسدا أنهكه التفكير، وعينا غشاها الدمع، ووجها شاحبا فقد نضارته وتألقه، وعلت فيه سحابة من الحزن والكآبة، وقد نكس رأسه تحت وطأة هم كبير الله أعلم بحقيقته، فجزع سعد رضي الله عنه وقال فزعا: " ما شأنك؟" فأجابه ثابت بكلمة واحدة جمعت كل مخاوفه: " شر" ثم لم يطق كتمان ما يجول بخاطره ويؤرق باله، فانطلق يشكو إلى جاره ما كان منه تجاه المصطفى –صلى الله عليه وسلم- وختم شكواه بقوله: " فأنا من أهل النار". 

وبعدما وقف سعد رضي الله عنه على حقيقة الخبر، انطلق إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم-  وقص عليه ما دار بينه وبين ثابت رضي الله عنهما، وتبسم المصطفى عليه الصلاة والسلام، فهو يعلم أن ثابتا ما كان ليرفع صوته عن سوء أدب، ولكنها جبلة وطبيعة لا يملك منها فكاكا، ولذلك جاء جوابه عليه الصلاة والسلام سريعا وحاسما يستمد يقينه من وحي السماء: ( اذهب إليه فقل له: إنك لست من أهل النار، ولكن من أهل الجنة ) .

 

وتأتي الأيام لتصدق نبوة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فإن ثابتا رضي الله عنه شارك في معركة اليمامة ضد مسيلمة الكذاب وأبلى فيها بلاء حسنا يقر به كل من كان في المعركة حتى سقط شهيدا، فرضي الله عنه وأرضاه.

 

إضاءات حول الموقف

يتعجب المرء حين يقرأ أمثال هذه المواقف النبوية، وذلك حين يلمس الحس المرهف والإجلال الكبير من الصحابة تجاه رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فثابت رضي الله عنه لم يكن منه سوى ارتفاع صوت غير مقصود، ولا يحمل دلالة استنقاص أو استخفاف، لكنه الخوف من الذنب، والتعظيم لمقام النبوة، وحفظ جناب المصطفى عليه الصلاة والسلام من أن يناله ما يؤذيه من قول أو فعل.

ولقد بلغ الحياء عند ثابت رضي الله عنه مبلغا عظيما بحيث لم يجرؤ على مصارحة الرسول –صلى الله عليه وسلم- بما يجول في نفسه من المشاعر والهواجس، وهذا يؤكد أن حواريي النبي عليه الصلاة والسلام وأتباعه كانوا يمثلون أكمل جيل وأعظم رعيل، وبمثل هذه الأخلاق الفاضلة استحقوا مكانتهم عند الله وعند الناس.

 

ومن اللافت للنظر هنا، أن النبي – صلى الله عليه وسلم- كان يتفقد أصحابه ويلحظ غيابهم، وذلك بالرغم من كثرة مشاغله وتعدد مسؤولياته من جهة، وكثرة أصحابه ومحبيه من جهة أخرى، وهذا القدر من الالتفات إلى الإخوة في الدين لهو معلم من معالم الخلق النبوي بعظمته وسموه.

 

وأخيرا: فإن شراح السنة اعتبروا هذه الحادثة آية على نبوته –صلى الله عليه وسلم- ونموذجا من نماذج الدلائل على صدقه فيما يتعلق بالجانب الغيبي؛ فقد بشر عليه الصلاة والسلام ثابتا بالثبات على الدين والموت على الملة ثم دخول الجنة، فكان الأمر كما قال، وصدق الله تعالى إذ يقول: {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى} (النجم: 3-4).

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة