مستشرقون في علم الآثار

0 1072

تقوم المركزية الغربية على افتراض أن أوروبا مركز العالم على مر العصور، وأن كل ما في الكون يكتسب أهميته من علاقته بأوروبا، وأن الشعوب الأخرى التي تعيش خارجها، أو ليست لها علاقة بها، شعوب غير متحضرة وربما غير بشرية.

وأنتجت هذه النظرة العنصرية المنطلقة من المركزية الأوروبية قراءة لتاريخ وجغرافية وحضارة الشعوب غير الأوروبية سميت فيما بعد بالاستشراق.

وقد نتجت عن هذا العلم المشبع بالمركزية الأوروبية معرفة متخيلة استخدمت في تبرير حملات الإبادة والنهب الاستعماري.

يتكون هذا الكتاب الذي يناقش تأثير الاستشراق على علم الآثار من تمهيد وستة فصول:
 فصله الأول جاء تحت عنوان "كيف قرؤوا الألواح وصنعوا التاريخ"، والثاني "المشكلة التوراتية"، والثالث "طريق العطور"، والرابع "الجغرافية السياسية للثقافة العربية". أما الخامس فعنوانه "ألسنة أم لهجات لسان واحد؟"، والسادس "ميلاد تاريخ فلسطين القديمة".

يقول الكاتب محمد الأسعد "النص، والنص التوراتي تحديدا لعب الدور الأكبر في إنتاج ماضي الشرق، وشرقنا العربي بخاصة، فوضع تاريخه ولغاته وفنونه وآثاره المادية في سياقات غريبة لا تنتمي إليه بقدر ما تنتمي إلى صورة متخيلة مستمدة من المرويات التوراتية، حتى وإن كان هذا الماضي أوسع زمانا ومكانا من تلك اللحظة العابرة في تاريخه، تلك التي يفترض أنها مرحلة توراتية".

وأعطت هذه الخصوصية علم الآثار في شرقنا العربي طابعا مغلقا وثابتا، فهو فرع آخر غير علم الآثار، إنه علم خاص يدعى علم الآثار التوراتي، لا تلمسه أي مكتشفات من أي نوع كان، ولا تغير ثوابته أي خبرات جديدة مكتسبة، ولا تطورات حديثة في مجال علم الآثار.

في أساس هذا العلم يكمن عنصران يسمونهما "الرؤية" و"الإحساس بالهدف".

والرؤية هي بالطبع الرؤية اللاهوتية، أي رؤية جوهر أصلي في تاريخ هذه الأرض لا يتغير، كان وظل على مر العصور والأحقاب، تمثله مآثر شعب التوراة لغة وتاريخا ومملكة وفنونا..إلخ. وينظر إلى حضارات المنطقة القديمة على أنها مجرد مشتقات ثانوية من هذه المآثر.

أما الهدف فهو استعادة هذا الجوهر المطمور في تلال المنطقة العربية وفلسطين خصوصا، وإعادته إلى الحياة.

ومن هنا فوظيفة علم آثار من هذا النوع ليس التنقيب عن الآثار القديمة والتعرف على هويتها، فهذه الهوية معروفة سلفا في النص التوراتي، بل لرفعها كمستندات تخلق رابطة بين ذلك الجوهر الثابت وبين الكيان الاستعماري الذي أنشأه الغرب على أرض فلسطين وكونه من يهود جلبهم من مختلف الهويات القومية تحت زعم أنهم ورثة ما يسميه في أدبياته "أرض التوراة" أي الجوهر الثابت على مر العصور "مركزية التوراة في الحضارة الغربية".

يقول المؤلف "لقد توجه الغرب إلينا مسلحا بأسطورتين: أسطورة حق القوي في الهيمنة وفرض روايته، وأسطورة توراتية اعتبرت تاريخا ملائما لفهم مجريات الماضي".

ولفهم العمق التوراتي للحضارة الغربية يستشهد المؤلف بما قاله الفيلسوف البريطاني "برتراند راسل" عن الكنيسة الكاثوليكية "فتاريخها المقدس يهودي، ولاهوتها يوناني، وحكومتها وقانونها رومانيان. وجاء الإصلاح الديني فنبذ العناصر الرومانية، وحد من العناصر اليونانية، وزاد من قوة العناصر اليهودية".

فمارتن لوثر دفع بالعنصر التوراتي إلى مرتبة الصدارة في تعاليم الكنيسة، "كانت التوراة بالنسبة للوثر وحدها ما يعطي الكتاب المقدس (الإنجيل) قيمته الحقيقية.. لم تكن التوراة أساس إيمانه بل تجربته الخاصة.. أما  الفيلسوف "كالفن" فقد أصبحت التوراة بالنسبة له السلطة السامية المعصومة عن الخطأ في جميع الأمور".

اتفق كل من كالفن ولوثر على تقوية الاتجاهات الرأسمالية والصناعية والتجارية السائدة في عصرهما، كما اتفقا على الفردية وسيادة الدول القومية، وعلى اعتماد التوراة كمرجع أعلى.

وتأثير التوراة ما زال يفعل فعله حتى اليوم، فالكاتب "بورخيس" يصرح أنه "نشأ على قراءة التوراة"، ويضيف أن إسرائيل تشكل جزءا عميقا منا جميعا، وأشد عمقا من الانتساب برابطة الدم أو التحدر من عنصر واحد.

وكذلك الكاتب الألماني "غونتر غراس" الحائز على جائزة نوبل، يقف في الهند ليقول "إن ثاني أكبر مشكلة تعانيها البشرية اليوم بعد مشكلة الخطر النووي، هي مشكلة الحفاظ على الأقلية الإسرائيلية الحزينة المهددة بالإبادة في المنطقة العربية".

لذلك فمن الطبيعي أن يحمل الآثاريون الغربيون هذا البعد التوراتي، وترافق ذلك مع عصر الاستعمار ونشوء الكيان الصهيوني وبالتالي "تلازم البعد اللاهوتي والبعد الاستعماري وسارا في سياق واحد وبتوافق تام، الأول كان يستولي بفرق الاستطلاع والمسح والتنقيب على الماضي الفلسطيني ويحل محله ماضيا مختلقا، والثاني كان يستولي بقواته العسكرية ووحشية فاقت الوحشية النازية والفاشية على الحاضر الفلسطيني ويكمل مهمة الأول على أتم وجه"، كما يشرح المؤلف.

نحن إذا أمام علم استشراق تطبيقي تلازم فيه فرض تاريخ على الأرض مع إبادة سكانها الأصليين، وفق منطق يقول إن الأرض كانت خالية وهاهم أصحابها الأصليون: اليهود يعودون لامتلاكها.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة