نظرة في تدبُّر الوحي

3 954

شاء الله - سبحانه - بإرادته الحكيمة أن يخلق الإنسان، فسواه على التقويم الكامل الذي يجعله صالحا لأداء الهدف النبيل الذي وجد من أجله، وأنزل إليه الوحي على يد رسل من جنسه ليبينوه له، وبذلك اكتملت الأركان التي تنبني عليها المهمة الاستخلافية للإنسان في الأرض.

والخطوة الأولى لتحقيق مقاصد إنزال الوحي الرباني والانتفاع بنوره من طرف الإنسان؛ هي: تدبره؛ لذلك ينبغي على المكلف تحديد مفهوم تدبر الوحي في ذهنه وتفعيله في سلوكه حتى يكون على بصيرة من أمره أثناء تعامله مع نصوصه، و هذا ما سنحاول الإشارة إليه في هذا الموضوع، بإذن الله.

أولا: مفهوم تدبر الوحي:
سنتعرف إلى مفهوم تدبر الوحي بتحديد معنى مصطلحيه المكون منهما أولا؛ أي (مصطلح التدبر، ومصطلح الوحي)، ثم سننظر في المعنى الجديد الذي تعطيه ضميمتهما ثانيا؛ لأنه لا بد لـ (الضميمـة المركبة) أن تفيد في النهاية مفهوما جديدا خاصا ومقيدا ضمن المفهوم العام المطلق كما هو معلوم في علم الاصطلاح.

مفهوم التدبر:
التدبر بمعناه العام المتداول يرجع استعماله في الغالب إلى معناه اللغوي المأخوذ من مادة (د ب ر). نقول: التدبير في الأمر؛ أي: النظر إلى ما تؤول إليه عاقبته، والتدبر التفكر فيه[مختار الصحاح]، فهو عبارة عن آلية منهجية فعالة تجعل الإنسان المتدبر يقوم بعملية نقد ذاتي لباطنه وسلوكياته الظاهرة؛ قصد الارتقاء بفكره وتزكية نفسه من خلال مقارنة حاله مع مقتضى الكلام المتدبر، قال ابن القيم: وتدبر الكلام أن ينظر في أوله وآخره ثم يعيد نظره مرة بعد مرة، ولهذا جاء على بناء التفعل كالتجرع والتفهم والتبين[مفتاح دار السعادة 1/183].

مفهوم الوحي:

مصطلح الوحي في لسان الشرع يدل على كل ما أعلم به الله - سبحانه - رسوله  - صلى الله عليه وسلم -  من أمر الدين ليبلغه للناس كافة، وهو إما أن يكون قرآنا أو سنة، وإذا كان علماؤنا يعرفون القرآن بكونه كلام الله - تعالى -، والسنة بأنها ما صدر عن النبي  - صلى الله عليه وسلم -  من قول أو فعل أو تقرير أو صفة؛ فإن ذلك من باب التفريق بين كيفية تبليغ كل واحد من الوحيين (القرآن والسنة)؛ حيث إن القرآن الكريم أوحيت كلماته من الله - سبحانه وتعالى - إلى الرسول  - صلى الله عليه وسلم -  ليبلغها بحروفها، لذلك يصطلح على طريقة تبليغه الوحي الجلي أو المتلو. بينما أوحيت السنة النبوية الشريفة بالمعنى فقط، وصيغها اللفظية منسوبة إلى الرسول  - صلى الله عليه وسلم - ، ويصطلح على طريقة تبليغها بالوحي الخفي. قال ابن كثير: السنة تنزل عليه  - صلى الله عليه وسلم -  بالوحي كما ينزل القرآن؛ إلا أنها لا تتلى كما يتلى القرآن[تفسير ابن كثير1/3] .

وبناء عليه تحددت المرجعية العليا في الإسلام للمصدرين الإلهيين المعصومين: القرآن والسنة، اللذين أمرنا باتباعهما، وأن نرد إليهما ما تنازعنا فيه، وإن شئت قلت: هو مصدر واحد، أو مرجع واحد، هو (الوحي الإلهي)[مدخل لمعرفة الإسلام للقرضاوي].

ضميمة (تدبر الوحي):

إذا كان المعنى العام لـ عملية التدبر هو النظر في مدى استفادة الإنسان من خلال مقارنة حاله بمقتضى الكلام المتدبر فيه، ولا شك أن تفعيل هذا المعنى في الآيات القرآنية المحكمة أو الأحاديث النبوية المعصومة التي لا يمكن أن نجد كلاما حكيما مثلها؛ إن تفعيل ذلك سيجعل عملية التدبر عبارة عن سعي المسلم لتربية نفسه بالوحي من خلال إبصاره لمدى التزامه بتطبيق مقتضاه، أو هو: تأمل المسلم في مستوى تلاوته (اتباعه) للقرآن ومدى تأسيه بالرسول العدنان، عليه الصلاة والسلام.

وعندما يلتزم المسلم بتطبيق هذا المفهوم يكون حينئذ قد خطا خطوته الأولى في الطريق الذي يحقق له مبدأ ربانيته.

ثانيا: تكاملية تدبر طرفي الوحي:

مسلك تدبر الوحي هو الأصل الأصيل الذي لا صلاح لنا بدونه؛ وهو الذي جاءت نصوص الوحي تترى من أجل أن ترسخه فينا؛ حتى صار من بدهيات الدين.
ونذكـر من تلك النصوص على ســبيل التذكير:
 قـوله - تعالى -: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب} [ص: ٩٢].
وقوله - سبحانه -: {قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين} [آل عمران: ٢٣].
وقوله - عز وجل -: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لـمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} [الأحزاب: ١٢].
وقال الرسول  - صلى الله عليه وسلم - : ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه[رواه أحمد]. وقال  - صلى الله عليه وسلم - : من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد[متفق عليه].

وبالنظر في هذه النصوص الشرعية ونظيراتها نعلم أن العلاقة بين تدبر طرفي الوحي علاقة وطيدة ومتكاملة؛ لأن مصالح الإنسان تأصلت في القرآن وتفصلت في السنة[9]، وعدم تدبرهما أو إغفال أحدهما يخل بالميزان الرباني الذي ينبغي للمسلم أن يقيس به أفعاله وأقواله، وهو الأمر الذي يجعله يضل أو يسير من غير إبصار لحقائق الأمور؛ لقوله  - صلى الله عليه وسلم - : تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله[الموطأ].

ثالثا: شبهة عارضة على تدبر الوحي:

تتمثل هذه الشبهة في الادعاء بأن الناس من العوام يتجرؤون بالتقول على القرآن والسنة حين يتدبرونهما؛ حيث يقعون في تأويل الوحي بغير علم بسبب عدم امتلاكهم آليات الفهم وضوابطه، ويخشى أن تكون أفهامهم أثناء تدبرهم للوحي بشكل مباشر عبارة عن خواطر ووساوس شيطانية.

وهذا أمر صحيح؛ لأن التعامل مع الوحي له منهج ضابط ينبغي التقيد به؛ حتى لا يقع المسلم في الإساءة إليه ولو عن غير قصد؛ ولكن ينبغي التفصيل في هذه الشبهة العارضة؛ لأنه ينتج عن تعميمها فتور كثير من الناس عن تعاهد كلام الله - تعالى - وسنة رسول الله  - صلى الله عليه وسلم - ، وقد يؤول الأمر- والعياذ بالله - عند استثقال التعامل مع كتب تفسير القرآن وشروح السنة إلى الإعراض عنهما.

ومن خلال سبر هذه الشبهة وتقسيمها نجدها تنتج عن سببين اثنين، هما:

السبب الأول: هو عدم التفريق بين الأبواب التي تنتمي إليها كل طائفة من نصوص الوحي؛ إذ من المؤكد أن مجال الفتوى والقضاء وأشباههما مما يتعلق بالأحكام الشرعية أو ما يمكن إجماله بقولنا مجال معرفة الحلال والحرام؛ هو مغاير لمجال العقائد والأخلاق والبر والصلة.

فالمجال الأول: الكلام في موضوعه مقصور على أهل الاجتهاد الذين يحيطون بالعلوم الشرعية كـ (علوم القرآن والحديث، وأصول الفقه ومقاصد الشريعة...)، والفنون الآلية وعلى رأسها العلم باللسان العربي، إضافة إلى فقه الواقع، علما بأن علماءنا حصروا نصوص الوحي المتعلقة بهذا الجانب في كتب مستقلة للتعريف بها، وسموها بكتب تفسير آيات الأحكام، وكتب أحاديث الأحكام [ككتب أحكام القرآن وعمدة الأحكام وأمثالها].

أما بخصوص المجال الثاني الذي يشكل الجانب الأكبر من الوحي؛ فإن نصوصه في الغالب ما تكون واضحة وميسرة وبتعبير مقتبس عن إمام المقاصد الشاطبي: هي نصوص أمية؛ أي: معناها العام ميسر ليفهمه كل إنسان عربي اللسان؛ لأنها لا تحتمل إلا معنى واحدا وإن اختلفت قراءاتها إذا كانت قرآنا أو رواياتها إذا كانت حديثا، ولا يمكن أن يختلف في مقتضاها العلماء بله العوام الذي لا يعرفون دقائق العلم، وهذا عكس آيات وأحاديث الأحكام التي يؤدي اختلاف القراءة أو الرواية أو الحركة الإعرابية للكلمة فيها إلى تغاير الآراء الفقهية المستنبطة منها.

السبب الثاني: هو الخلط الحاصل بين مفهوم التدبر ومفهوم التفسير والشرح والتبيين: لأن التفسير والبيان يقف عند حدود الفهم أما التدبر فهو بداية تفعيل الفهم؛ حيث تتولد عنه الحسرة في نفس العبد على التفريط في الالتزام بهدي الوحي والفرحة عند الموافقة له والتوفيق فيه، ولما كان القسم الأكبر من الوحي متوجه نحو الآداب والأخلاق العامة التي لا يتوقف فهمها على الغور في نصوص الوحي الميسرة؛ فإنه تكفي المعرفة العامة بظواهر كلماتها وألفاظها لينزلها كل واحد منا على نفسه.

أخيرا: إذا ما استوعبنا سبر حقيقة هذه الشبهة التي هي تلبيس عارض على تدبر الوحي فإننا سنقبل عليه دون خوف أو وجل؛ إقبال المريض المتلهف للشفاء، والظمآن المتعطش للماء، وستكون الثمرة هي: خروج كل واحد منا عن داعية هواه حتى يكون عبد الله اختيارا، كما هو عبد الله اضطرارا[الموافقات 2/168].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
البيان 279

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة