من غشنا فليس منا

3 2552

عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر على صبرة طعام، فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا، فقال: ( ما هذا يا صاحب الطعام؟ ) ، قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: ( أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غش فليس مني) رواه مسلم .

وفي رواية أخرى للحديث عند مسلم : (من غشنا فليس منا) .

معاني المفردات

السماء : المطر

الصبرة : الكومة المجموعة بلا كيل ولا وزن.

تفاصيل الموقف

الغش ظاهرة اجتماعية خطيرة، يقوم فيها الكذب مكان الصدق، والخيانة مكان الأمانة، والهوى مقام الرشد، نظرا لحرص صاحبها على إخفاء الحقيقة، وتزيين الباطل، ومثل هذا السلوك لا يصدر إلا من قلب غلب عليه الهوى، والانحراف عن المنهج الرباني.

ومظاهر الغش والخداع كثيرة، جاء أحدها في موقف سجله لنا التاريخ، وفيه أنه النبي –صلى الله عليه وسلم- كانت له زيارة إلى السوق ليشتري ما يحتاجه، فاستوقفه منظر كومة من طعام –جاء في المستدرك أنها من الحنطة- وقد عرضها صاحبها للبيع.

ومن النظرة الأولى أعجب النبي –صلى الله عليه وسلم- بالطعام فهو يبدو فائق الجودة والنضارة، لكن الفحص الدقيق يظهر ما كان خافيا، فقد أدخل النبي عليه الصلاة والسلام يده الشريفة إلى تلك الكومة فإذا بها مبتلة على نحو يوحي بقرب فسادها.

استدار النبي –صلى الله عليه وسلم- إلى الرجل، وألقى إليه بنظرة لائم وأتبعها بسؤال المعاتب: ( ما هذا يا صاحب الطعام؟ ) ، فأطرق الرجل رأسه في خجل وقال: ": أصابته السماء يا رسول الله"، وكأنه يريد أن يعتذر عن فعلته ولكن بما لا يعتذر به، وأن يبرر موقفه ولو بأقبح التبريرات، كل ذلك محاولة منه في تخفيف غضب النبي عليه الصلاة والسلام وعتابه.

لكنه رسول الله، ومعلم البشرية، ومتمم الأخلاق، ما كان له أن يتغاضى عن موقف كهذا، وليس الموقف موقف مجاملات أو صفح عن خطأ فردي، ولكنه أوان ترسيخ مبدأ عظيم يحفظ حقوق الناس ويصونها من العبث والتدليس: ( أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غش فليس مني)

إضاءات على الموقف

حقيقة الغش هو تقديم الباطل في ثوب الحق، الأمر الذي ينافي الصدق المأمور به والنصح المندوب إليه، وقد صح الحديث عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) متفق عليه، ومن هذا المنطلق جاء تحريم الغش حتى يعامل كل فرد من أفراد المجتمع غيره بما يحب أن يعاملوه به، فكما لا يرضى الخديعة والاحتيال على نفسه فكيف يرضاه على الآخرين؟

ومن العار على الشرفاء أن يرضوا على أنفسهم بمثل هذه الدناءة الخلقية، فعلاوة على كونها معصية صريحة لله ورسوله، وأكلا لأموال الناس بغير حق، فهي كذلك سبب في ضياع الذمم وانعدام الثقة وإشاعة البغضاء، وقد أوضح النبي –صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: ( بيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما ) متفق عليه.

وإذا جئنا إلى صور الغش في البيع فهي كثيرة جدا، ومن ذلك: التطفيف في المكيال وعدم إيفاء الوزن حقه بما يتنافى مع قوله تعالى: {وزنوا بالقسطاس المستقيم} ( الإسراء: 35)، ومن ذلك بيع التصرية: وهو ترك حلب الناقة مدة قبل بيعها لإيهام المشتري بكثرة لبنها، ومن صورها: إطعام النحل للسكر حتى تكثر نتاجها، وخلط الماء باللبن حتى يكثر، وبيع البضائع المقلدة على أنها أصلية، ومنع المشتري من فحص السلعة أو تجريبها قبل شرائها، وقريحة من لا خلاق لهم لا تنضب من ابتكار صور جديدة له في كل عصر وبلد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

على أن مفهوم الحديث أوسع من دلالته على تحريم الغش في مجال المعاملات المالية فحسب، فقد خرج مخرج القاعدة الشمولية التي تخاطب جميع أنواع الحياة، فيكون الغش في الزواج بإخفاء عيوب الزوجة، أو منافاة الأمانة في عدم بيان حال من تقدم للخطوبة وأخلاقه ودينه، ويكون الغش في النطاق الوظيفي في العمل بما يحقق المصالح الشخصية ولو كان على حساب الآخرين، ويكون الغش مع العلماء في كتم النصيحة عنهم، فضلا عن أشهر أنواع الغش وأكثرها خطورة: غش الطلاب في الامتحانات.

ولن يكون علاج مثل هذا الداء العضال إلا بإيقاظ الضمائر وإحياء جانب المراقبة عند الأفراد، فيعلم كل فرد أن الله مطلع على أعماله وسوف يحاسبه، ويتزامن ذلك مع إيجاد عقوبات رادعة تعاقب كل من سولت له نفسه خيانة الأمانة، وبذلك يتحقق الأمن وتنتشر الأمانة، ويسود الإخاء في أرجاء الأمة.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة