- اسم الكاتب: إسلام ويب
- التصنيف:المقالات
لا شك أن سلفنا الصالح رحمهم الله هم أهدى الناس قلوبا، يشهد بذلك كل من نظر في أحوالهم وتأمل عباراتهم؛ وهذه الهداية جاءت عندما استقر الإيمان في قلوبهم وعرفوا الله حق معرفته وقدروه حق قدره، فجعل الله لهم فرقانا يميزون به بين الحق والباطل، وبصيرة يدركون بها بواطن الأمور، مصداقا لقوله تعالى: { ومن يؤمن بالله يهد قلبه} (التغابن:11).
وأولئك الأخيار أدمنوا النظر والتأمل في نصوص الوحيين، فتجلت لهم حقائق المعاني، وتكشفت لهم معالم خفية ودقائق لطيفة من العلوم الشرعية والحكم الربانية.
لننظر سويا إلى إيمانهم بالقضاء والقدر كيف كان أثره على كلماتهم؟ وكيف عبروا عنه بإشراقة لفظ وجمال عبارة وعميق معنى، حتى صارت حكما تدور على ألسنة الخلق، ويهتدى بها إلى الحق.
يروي لنا زياد بن زاذان أن الإمام عمر بن عبد العزيز قال: "ما كنت على حال من حالات الدنيا فيسرنى أني على غيرها"، ومما حفظ عنه قوله: "أصبحت وما لي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر".
واشتهرت عنه دعوات كان يكثر من تردادها: "اللهم رضني بقضائك، وبارك لي في قدرك، حتى لا أحب تعجيل شئ أخرته، ولا تأخير شئ عجلته".
ويقول خلف بن إسماعيل : "سمعت رجلا مبتلى من هؤلاء الزمنى –أي من كان مرضهم مزمنا- يقول: وعزتك لو أمرت الهوام فقسمتني مضغا ما ازددت لك بتوفيقك إلا صبرا، وعنك بمنك ونعمتك إلا رضا" وكان الجذام قد قطع يديه ورجليه وعامة بدنه.
ويروي محمد بن أبى القاسم أن واعظا أوذي في الله فقطعت يداه ورجلاه، فكان يقول: " إلهي، أصبحت في منزلة الرغائب، أنظر إلى العجائب، إلهي، أنت تودد بنعمتك إلى من يؤذيك، فكيف توددك إلى من يؤذى فيك؟".
وفي قوله تعالى: { ومن يؤمن بالله يهد قلبه} (التغابن:11) يقول علقمة : "هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله، فيسلم لها ويرضى".
وروى السري بن حسان عن عبد الواحد بن زيد قوله: " الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين".
ورأى علي بن أبى طالب رضي الله عنه أحد المبتلين فقال له: " يا عدي ، إنه من رضي بقضاء الله جرى عليه فكان له أجر، ومن لم يرض بقضاء الله جرى عليه فحبط عمله".
وعن أبى مجلز أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "ما أبالي على أي حال أصبحت على ما أحب أو على ما أكره؛ لأني لا أدري الخير فيما أحب أو فيما أكره".
وروى أبو هارون المديني عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "إن الله تبارك وتعالى بقسطه وعلمه جعل الروح والفرج في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط" .
وروى مكحول أن ابن عمر رضي الله عنه كان يقول: "إن الرجل ليستخير الله فيختار له، فيتسخط على ربه، ولا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خير له".
وذكر يزيد بن مرثد الهمداني أن أبا الدرداء رضي الله عنه قال: "ذروة الإيمان أربع: الصبر للحكم، والرضا بالقدر، والإخلاص للتوكل، والاستسلام للرب عز و جل".
واجتمع مالك بن دينار و محمد بن واسع فتذاكرا العيش، فقال مالك : "ما شيء أفضل من أن يكون للرجل غلة –أي أرض أو زراعة - يعيش فيها"، فقال محمد : "طوبى لمن وجد غداء ولم يجد عشاء، ووجد عشاء ولم يجد غداء، وهو عن الله عز و جل راض".
وفي تفسير قوله تعالى: {وبشر المخبتين} (الحج:35)، جاء عن سفيان قوله: "المطمئنين الراضين بقضائه، المستسلمين له".
وروى أحمد بن أبي الحواري أن أبا سليمان كان يقول: "إذا سلا العبد عن الشهوات فهو راض".
وروى حكيم بن جعفر أن أبا عبد الله البراثي قال: "لن يرد يوم القيامة أرفع درجات من الراضين عن الله عز و جل على كل حال" وقال أيضا: "من وهب له الرضا فقد بلغ أفضل الدرجات ".
وقال أحد العباد: "إن أنت رضيت بما أعطيت، خف الحساب عليك فيما أوتيت"، وقريبا من هذا قول الحسن : "من رضى من الله بالرزق اليسير، رضى الله منه بالعمل القليل".
وروي عن ابن أبى الحواري أن أبا عبد الله النباجي كان يقول: "إن أعطاك أغناك، وإن منعك أرضاك".
وأثر عن الإمام ابن عون قوله: "ارض بقضاء الله على ما كان من عسر ويسر؛ فإن ذلك أقل لهمك وأبلغ فيما تطلب من آخرتك، واعلم أن العبد لن يصيب حقيقة الرضا حتى يكون رضاه عند الفقر والبؤس كرضاه عند الغناء والرخاء، كيف تستقضي الله في أمرك ثم تسخط إن رأيت قضاءه مخالفا لهواك؟ ولعل ما هويت من ذلك لو وفق لك لكان فيه هلكتك، وترضى قضاءه إذا وافق هواك؟ وذلك لقلة علمك بالغيب، وكيف تستقضيه إن كنت كذلك ما أنصفت من نفسك ولا أصبت باب الرضا".
واستنصح بشر بن بشار المجاشعي ثلاثة من الصالحين، فقال الأول: "ألق نفسك مع القدر حيث ألقاك؛ فهو أحرى أن تفرغ قلبك ويقل همك، وإياك أن تسخط ذلك فيحل بك السخط وأنت عنه في غفلة لا تشعر به"، وقال الثاني: " التمس رضوانه في ترك مناهيه فهو أوصل لك إلى الزلفى لديه"، وقال الثالث: " لا تبتغ في أمرك تدبيرا غير تدبيره؛ فتهلك فيمن هلك، وتضل فيمن ضل".
وعن عامر بن عبد قيس قال: "ما أبالي ما فاتني من الدنيا بعد آيات في كتاب الله" يعني قوله تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} ( هود:6)، وقوله تعالى: {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده} ( فاطر:2)، وقوله تعالى: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شئ قدير} (الأنعام:17).
وحدث الربيع بن صبيح أن الحسن كان يقول: "ارض عن الله يرضى الله عنك، وأعط الله الحق من نفسك، أما سمعت ما قال تبارك وتعالى: {رضي الله عنهم ورضوا عنه} (التوبة:100)، وجاء عنه قوله: "من رضي بما قسم الله له وسعه وبارك الله له فيه، ومن لم يرض لم يوسعه ولم يبارك له فيه".
وروى شداد بن سعيد الراسبي أن غيلان بن جرير قال: "من أعطي الرضا والتوكل والتفويض فقد كفي".
وجاء عن محمد بن اسحاق أن أحد العلماء سئل: بم يبلغ أهل الرضا؟، فقال: "بالمعرفة؛ وإنما الرضا غصن من أغصان المعرفة".
ونسب إلى الإمام الشافعي قوله:
ما شئـت كان وإن لم أشأ وما شئت إن لم تشـأ لم يكن
خلقت العباد على ما علمت ففي العلم يجري الفتى والمسـن
على ذا مننت وهذا خذلت وهذا أعنــت وذا لم تعــن
فمنهم شقي ومنهـم سعيد ومنهـم قبيـح ومنهم حسـن
ونختم نظام هذا العقد من أقوال السلف بما قاله الإمام ابن القيم رحمه الله: "الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين، وقرة عيون المشتاقين، ومن ملأ قلبه من الرضا بالقدر، ملأ الله صدره غنى وأمنا، وفرغ قلبه لمحبته والإنابة إليه والتوكل عليه، ومن فاته حظه من الرضا ، امتلأ قلبه بضد ذلك واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه".