أوهام الجاهليّة الأولى: الطيرة والتشاؤم (2)

4 2719

التشاؤم والتطير بين الماضي والحاضر

عادة التطير عادة موغلة في القدم، استخدمها أعداء الرسل في رد دعوة الحق والهدى بدعوى أنها سبب لحلول المصائب والبلايا، فقد تشاءم قوم صالح بنبيهم – عليه السلام – حيث قالوا له: {اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون }(النمل:47) . أي تشاءمنا بك وبمن اتبعك .

وتطير فرعون وقومه بموسى – عليه السلام – ومن معه، قال تعالى: { فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون }(الأعراف: 131 ).

وتطير أصحاب القرية برسل الله عز وجل حيث قالوا لهم: { قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم }(يس:18).

وقد كان الرد عليهم جميعا: أن ما حل بكم من شر وبلاء إنما هو بسبب كفركم وعنادكم واستكباركم، ولا يخرج عن قضاء الله وحكمته وعدله، قال تعالى: { ألا إنما طائرهم عند الله }(الأعراف: 131).

ويذكر المؤرخون أعاجيب المعتقدات الجاهلية فيما يتعلق بالتشاؤم من الحيوانات، فقد كانوا يظنون أن السباع والطير الجبلية إذا تحولت عن أماكنها ومواضعها دلت بذلك على أن الشتاء سيشتد ويتفاقم، وأن الجرذان إذا قرضت ثياب أحد دلت بذلك على نقص ماله وولده، وإذا أكثرت الضفادع النقيق دلت على فشو الموت، وإذا صرخت ديوك صراخا كالبكاء فشا الموت في النساء، وإذا صرخ الدجاج مثل ذلك الصراخ فشا الموت في الرجال، وإذا صفق ديك بجناحيه ولم يصرخ دل على أن الخير محتبس عن صاحبه، وإذا نبح كلب بعد هدأة نبحة بغتة دل على أن السراق قد اجتمعوا بالغارة على بعض ما في تلك الدار أو ما جاورهم، ومن سقطت أمامه حية من جحر أصابته مضرة، وإذا رئي في الهواء دخان وظلمة من غير علة تخوف على الناس الوباء والمرض، وإذا عوت ذئاب من جبال وجاوبتهم الكلاب من القرى المجاورة تفاقم الأمر في التحارب وسفك الدماء، فضلا عن صور أخرى كثيرة يضيق الوقت عن ذكرها وهي مبثوثة في كتب التاريخ.

ومن إرث الجاهلية التشاؤم من شهر صفر، واعتقاد كونه شهرا يجلب الشر معه، ولقد أورد الإمام أبي داوود صاحب السنن عن محمد بن راشد قوله: " سمعت أن أهل الجاهلية يستشئمون بصفر فقال النبى -صلى الله عليه وسلم- ( لا صفر )".

ويرى بعض الباحثين أن التشاؤم من الغربان ربما يكون منشؤه من اسمه الموحي بالغربة والفراق، من هنا كثر تشاؤمهم به واستيحاشهم من رؤيته، وأشعارهم تظهر ذلك بجلاء، كمثل قول علقمة بن عبدة:

              ومن تعرض للغربان يزجرها* على سلامته لابد مشؤوم
وقول غيره:

                    يبشرني الغراب ببين أهلي*فقلت له: ثكلتك من بشير
وعلى الرغم من ذلك فإن العقلاء من أهل الجاهلية كانوا ينكرون مثل هذه التصرفات ويسخرون ممن يصدقها ويتعلق بها، وقد قالوا قديما:

                   ولقد غدوت وكنت لا أغدو على واق وحاتم
                    فإذا الأشائم كالأيامن والأيامـن كالأشائم
                   وكـذاك لا خير ولا شر على أحـد بدائم
                   لا يمنـعنك من بغا ء الخير تعقاد التمائم
                   لا والتشاؤم بالعطا س ولا التيامن بالمقاسم
                    قد خط ذلك في السطو ر الأوليات القدائم

ويقول آخر:

لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى ولا زاجرات الطير ما الله صانع
سلوهن إن كذبتـموني متى الفتى يذوق المنايا أو متى الغيث واقع
ويقول آخر:

               الزجر والطير والكهان كلهم مضللون ودون الغيب أقفال

ومما يسجل أنفتهم من هذه المعتقدات:

                  وما أنا ممن يزجر الطير همه* أصـاح غراب أم تعرض ثعلب
ولا السانحات البارحات عشية* أمر سليم القرن أم مر أغضب

وصدق قائلهم:

                وما عاجلات الطير تدنى من الفتى  نجاحا ولا عن ريثهن قصور

ومن طريف الأخبار ما حكي عن بعض الولاة أنه خرج في بعض الأيام لبعض مهماته فاستقبله رجل أعور فتطير به وأمر به إلى الحبس، فلما رجع من مهمته ولم يلق شرا أمر بإطلاقه، فقال له الأعور: "سألتك بالله ما كان جرمي الذى حبستني لأجله؟"، فقال له الوالي: "لم يكن لك عندنا جرم، ولكن تطيرت بك لما رأيتك!"، فقال: "فما أصبت في يومك برؤيتي؟"، فقال: "لم ألق إلا خيرا"، فقال: أيها الأمير، أنا خرجت من منزلي فرأيتك فلقيت في يومي الشر والحبس، وأنت رأيتني فلقيت في يومك الخير والسرور، فمن أشأمنا والطيرة بمن كانت؟"، فاستحيا منه الوالي ووصله بالعطايا.

وعن واقعنا المعاصر فإن المرء يقف مدهوشا أمام حجم الخرافات التي تغلغلت في الشعوب حتى أصبحت جزءا من ثقافتهم، مما يصنع مفارقة عجيبة بين تلك المعتقدات التي تطفح بها أدبياتهم وتطغى على سلوكهم وبين التقدم البشري والمستوى التقني والتكنولوجي الذي وصلت إليه تلك الشعوب.

لنذهب إلى بعض الدول الغربية ولننظر مثلا كيف يتشاؤم أهلها من بعض الأرقام الفردية خصوصا الرقم: "ثلاثة عشر" نتيجة لأسطورة قديمة تتحدث عن حواريي نبي الله عيسى عليه السلام وأن عددهم اثنا عشر حواريا، فانضم إليهم يهوذا الأسخريوطي وهو التلميذ الذي خان النبي وأراد تسليمه لليهود، فصاروا ثلاثة عشر، ومن يومها والناس تتشاءم من هذا الرقم ويعتقدون أنه جالب للنحس، مما حدا ببعض الفنادق والمنتجعات ألا تستخدم هذا الرقم عند ترقيم الغرف، فتجد الغرفة الثانية عشرة وتليها الغرفة الرابعة عشرة، والبعض الآخر لجأ إلى ترقيم الغرف بالأرقام الزوجية فقط حتى لا يقع فيما يحذر منه!.

أما عادة التطير من الغراب والتشاؤم من صوته فلم تتغير أبدا، كذلك التشاؤم من بعض الطيور كطائر البوم واعتقاد أنه مخبر بالشر أو أنه ينعى للسامع نفسه، ولذلك نجد أن هذين الطائرين من الرموز الأساسية التي لا غنى عنها في روايات الرعب وقصصه ومنتجاته السينمائية.

وعلى الجانب الآخر فإن الشرق "أوسطه وأقصاه" زاخر بصور التشاؤم ونماذجه البعيدة كل البعد عن العقلانية والنضوج الفكري والفطري، ولا يزال العلماء والمثقفون يعانون من تأثير تلك التصورات الباطلة على حياة الناس.

فمن ذلك أن كثيرا من الناس يمنعون دخول النساء اللاتي أصابهن الحيض على المرأة التي توشك على الوضع، أو حتى على النفساء!، ولو كان دخولهن بقصد السلام والتحية؛ اعتقادا منهم أن ذلك من أسباب قطع النسل أو موت الوليد.

والبعض يتشاءم جدا من رؤية القط الأسود –وليس له ذنب في سواده- أو رؤية كبير السن، فإذا خرج من بيته ورأى واحدا منهما نقض عزمه وعاد إلى بيته، وبالمثل فإن بعض أصحاب المحلات التجارية إذا دخل عليه أعور في أول يومه تشاءم وأغلق المحل اعتقادا منه بمجانبة التوفيق له سائر يومه وليلته!.

ومن إرث الجاهلية الذي لا يزال عالقا في النفوس ما نسمعه من البعض إذا دخل عليه أحد يكرهه أو طرق طارق بابه أو جاءه اتصال هاتفي على غير موعد إذا به يقول وعلى الفور: "خير يا طير!" لتعيد هذه الكلمة إلى الأذهان عادة زجر الطير التي كان يمارسها العرب وإن لم يقصد القائل ذلك.

ومن الأمثلة الحاضرة في الأذهان: التعامل مع بعض الظواهر الطبيعية والأعمال الاعتيادية باعتبارها مؤشرات على أحداث خفية أو مستقبلية،كالتعامل مع "طنين الأذن" وتفسيره بوجود غيبة أو نميمية تستهدف صاحب الطنين، أو  تفسير "الحكة في اليد اليسرى" كمؤشر على جائحة مالية تستأصل الموارد والمدخرات، أو اختلاج الجفن أو رمش العين بصورة لا إرادية واعتقاد أن ذلك فأل شر على صاحبها!.

والبعض يعتقد أن فتح المقص وغلقه مرارا دون سبب وجيه أنه مؤثر على مستوى العلاقات الأسرية وباعث على الكراهية والتوتر بين أفراده، أو يعتقد أن قيام أحد الناس بالتشبيك بين أصابعه أو كسر عود في مجلس عقد النكاح أنه سبب في فساد الزيجة، أو يظن أن العبور فوق طفل صغير سبب في حدوث الأمراض المستعصية لاحقا، أو أن اللعب بالمياه والتراشق بها محدث للفرقة والخلاف بين الحاضرين.

ومن الغرائب أن يتشاءم البعض من سماع آيات القرآن المتضمنة للتهديد أو التخويف والوعيد، بل وجد من الناس من يتجنب قراءة تلك الآيات خوفا أن يكون من أهلها!، وتبلغ الغرابة مداها من قيام بعض السذج والحمقى بالاستقسام بالقرآن!، وصورته أن يفتح المصحف بصورة عشوائية، فإذا وقعت عينه على آية فيها ذكر الطيبات أو وصف الجنة أو غيرها من الأمور المفرحة استبشر واعتبر أن ذلك فألا طيبا وأقدم على مراده، وإن أبصر آية فيها النذير أو ذكر النار أو نحوهما تشاءم وأحجم عما كان يريد، وهذا والله من الإلحاد في آي الكتاب والتعامل معها بما لم يأذن به الله، وليس ثمة فرق بينه وبين "الاستقسام بالأزلام".

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة