ثمرات الإيمان بالكتب السماوية

2 2722

الإيمان بالكتب الإلهية المنزلة جزء لا يتجزأ من منظومة الإيمان الكلية، لا يكتمل ولا يتحقق إلا بها، قال الله سبحانه وتعالى: { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله} (البقرة: 285)، وقال سبحانه مادحا المؤمنين: { وتؤمنون بالكتاب كله} (آل عمران: 119) أي بالكتب كلها، وفي خطاب إلهي آخر: { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا} ( النساء:136) فقد قرن سبحانه الإيمان بكتبه بالإيمان به، وجعل عاقبة الكفران بها كعاقبة الكفران به، سواء بسواء.

وبالتأمل في واقع هذه الكتب السماوية ومضامينها، وتوزيعها الزمني والمكاني، وعند النظر في تتابعها ومراحل تنزيلها، ومواقف المكلفين منها يستخرج المؤمن جملة من الدروس والفوائد التي تعود عليه بالنفع في واقعه ومآله، ودنياه وآخرته.

فمن ذلك:  استشعار نعم الله على عباده وآلائه التي لا تعد ولا تحصى، فقد جعل لهم كتبا تهديهم سبل الرشاد، وتخرجهم من الظلمات إلى النور، فلم يتركهم هملا تتخطفهم الأهواء والشهوات، وتتقاذفهم الميول والرغبات، ولم يجعلهم بلا هاد يعينهم ولا دليل يرشدهم، بل هيأ لهم من الأسباب ما يصلح أمرهم ويسدد وجهتم، ولابد للناس من مرجع ثابت للحق يثوبون إليه ويردون حياضه، ليكون حجة دامغة، ورحمة واسعة، وذكرى لمن كان له قلب، ونورا للأبصار والبصائر.

ولن يقدر العبد ما أسبغ الله عليه من نعمة الإيمان به، وما يتبعه من إيمان بما أنزله من كتب إلا عندما يتأمل حال من حرم هذه النعم، وحال من كان يحيا حياة الغي والضلال، لا يدري ما الهدف من سيره، وما هي الغاية التي يسعى إليها في حياته، قال تعالى: { أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم } (الملك:22) وقال أيضا في حق الضالين عن هديه: { أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون }( الأعراف:179).

ومن ثمرات الإيمان بالكتب السماوية - علاوة على ما ذكر - أنه يمنح المؤمن الشعور بالراحة والطمأنينة، وذلك بمعرفته أن الله سبحانه قد أنزل على كل قوم من الشرائع ما يناسب حالهم، ويحقق حاجتهم، ويهديهم لما فيه صلاح أمرهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى:{ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } (المائدة: 48)، فإذا كان المؤمن على بينة من هذه السنة الإلهية ازداد إيمانا مع إيمانه، ويقينا فوق يقينه، فيزداد حبا لربه ومعرفة له وتعظيما لقدره، فتنطلق جوارحه عاملة بأوامر الله، فتتحقق الغاية العظيمة من الإيمان بالكتب - وهي العمل بما فيها - فينال ثمرة هذا الإيمان سعادة في الدنيا وفوزا في الآخرة، وقد وعد الله عز وجل العاملين بشرعه الخير والبركات في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى:{ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض }(الأعراف:96) وقال أيضا: { ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون }(المائدة:66).

وفي اتفاق الكتب السماوية على رسالة التوحيد وتقرير أصول الإيمان، ونبذ الشرك والتحذير من مسالكه وذكر عاقبة الفريقين تنبيه على أهمية العقيدة، وبيان لوحدة الرسالات في الأصول والأهداف، ليعلم المؤمن أن الغاية واحدة، والمنبع واحد، والدين واحد مهما اختلفت مسمياته، وهو دين الإسلام، قال سبحانه وتعالى: { إن الدين عند الله الإسلام} (آل عمران:19) والإسلام هنا بمعناه العام من المعتقد والقيم الثابتة، وفي هذا الإطار نجد أن الكتب السماوية يصدق بعضها بعضا، ويؤكد اللاحق منها ما قرره السابق، وهذا التصديق مذكور في عدد من آي القرآن الكريم، منها قوله تعالى: { وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة} ( المائدة : 46) وقوله تعالى : { والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير } ( فاطر : 31)، وبهذا يعلم المسلم أن دينه ضارب في عمق التاريخ حتى آدم عليه السلام: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} (البقرة: 213)، والكتاب هنا اسم جنس يشمل كل ما نزل.

وفيما عدا الأصول تختلف الكتب السماوية في الشرائع والأحكام، والثمرة التي يجنيها المسلم من إدراك ذلك استجلاء الحكمة الإلهية الشاملة حيث جعل لكل قوم ما يناسب زمانهم ومكانهم وطباعهم، قال تعالى:{ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } (المائدة: 48)، وكان من مقتضى ذلك أن يحدث النسخ بين الكتب السماوية المختلفة، فجاء نسخ التوراة لبعض شرائع الإنجيل ، جاء في الآية الكريمة: { و مصدقا لما بين يدي من التوراة و لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم} ( آل عمران : 50) ، ونسخت آيات القرآن الكثير من الأحكام الواردة في الكتب السماوية السابقة كما هو معلوم، وهذا النسخ الحاصل بين هذه الكتب يبين أن ما كان منسوخا فخيريته و نفعه محدد بالزمان الذي كلف العباد به في وقته، كما أنه يظهر التدريج الذي حصل في الأحكام، وإذا كانت شريعة الإسلام نسخت إجمالا شرائع من كان قبلنا علمنا أن النسخ ليس مما يعسر فهمه داخل شريعتنا أيضا.

فالحاصل أن الإسلام رسالة للعالمين سفراؤها الأنبياء، ودساتيرها عبر الزمان كتبهم التي لم تزل ينسخ بعضها بعضا، حتى نسخت جميعها بالكتاب المهيمن الذي شرف الله به أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وفي ذلك رد على دعاة المذاهب الباطلة الذين زوروا التاريخ وقصروا شخصياته على الملوك والجبابرة مع إغفال متعمد عن تاريخ النبوة والكتاب.

وفي إنزال الكتب السماوية إظهار لعظمة الأنبياء الذين اختصهم الله تعالى بهذه المزية، فتظهر فضيلة إبراهيم عليه السلام بالصحف،وموسى عليه السلام بالتوراة، وعيسى عليه السلام بالإنجيل،وداوود عليه السلام بالزبور، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- بالقرآن، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء: { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس} (البقرة: 253).

ويستلزم الإيمان بالكتب السماوية الإقرار بأن الله سبحانه وتعالى لم يزل متكلما على وجه الحقيقة مع من يشاء من خلقه، بعيدا عن تأويل المبطلين وجفاء الغالين وانحراف كل من نفى صفة من صفات الباري أو عطلها، فإنه سبحانه وصف وحيه لموسى عليه السلام بقوله: {وكلم الله موسى تكليما} ( النساء: 164).

ومن جملة ما نستفيده كذلك إظهار نعمة الله العظيمة على هذه الأمة حيث جعل كتابها المنزل عليها مشتملا على إرث الكتب السابقة، فكل ما فيها من نور وهدى، وخير وصلاح، وحكمة ورشاد، فللقرآن منها نصيب وافر وزيادة فضل، وهذا من التوريث المذكور في قوله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} (فاطر:32)، يقول الإمام القرطبي في تفسيره: " وكأن الله تعالى لما أعطى أمة محمد –صلى الله عليه وسلم- القرآن، وهو قد تضمن معاني الكتب المنزلة ، فكأنه ورث أمة محمد عليه الصلاة والسلام الكتاب الذي كان في الأمم قبلنا".

ومما نستفيده أيضا إدراك أن أمم الأرض لم تزل تبعث فيها الأنبياء وتتنزل عليها الكتب؛ ليقوم الناس بالقسط، ولتحيا القلوب بالمواعظ الإلهية وتقوم الحياة بالأحكام الشرعية، وهذه البصائر المنزلة لم تنقطع عن الخليقة إقامة للحجة عليهم، مما يؤكد سذاجة أرباب الفكر المادي عند تناولهم لقصة الحضارة بأن البشر تدرجوا من أطوار بدائية عاشوا خلالها دهورا كالبهائم دون هداية من الله ولا إرشاد!.

ودرس آخر يقدمه الإيمان بالكتب السماوية، وهو أن من شرائع الدين ما لا يسعنا فيه إلا الإيمان المجمل دون أن نتكلف في التطلع إلا ما لا نعلمه من حقائقها وتفصيلاتها، فالله سبحانه وتعالى ذكر لنا في موضع واحد فحسب من القرآن الكريم ما يثبت لنا تنزل الكتاب على خليل الله إبراهيم عليه السلام، ذلك هو قوله تعالى: { صحف إبراهيم وموسى} (الأعلى:19)، ولم يقع في أيدينا شيء من هذه الصحف ولا علمنا طرفا من أخبارها أو شيئا من محتوياتها، ومع ذلك فإنه لا يسعنا سوى التسليم واليقين بنزولها عاملين بمقتضى الأمر الإلهي: { ولا تقف ما ليس لك به علم} (الإسراء:36)، ويقال مثل ذلك فيما لم يرد فيه من الله خبر كمسألة موطن خروج يأجوج ومأجوج وموعد خروجهم، وبهذا اليقين المنضبط والقائم على التسليم نجافي مسالك أهل التأويل الذين يحاولون لي أعناق النصوص واستنطاقها بما لم تقله ومحاولة ربطها بما يستجد من الأحداث ولو لم يكن ثمة رابط حقيقي!.

ومن فوائد الإيمان بهذا الركن إدراك الفرق بين الإرادة الكونية القدرية وبين الإرادة الشرعية، وبيان ذلك: أن الله سبحانه وتعالى أراد حفظ الكتب السماوية السابقة شرعا ولم يرده قدرا؛ ولذلك وقع التحريف فيها موافقة لإرادته الكونية القدرية دون الشرعية، ويختلف الأمر فيما يتعلق بالقرآن الكريم الذي أراد الله سبحانه وتعالى حفظه من التحريف والتبديل شرعا وقدرا.

وتظهر فضيلة هذه الأمة على من سبقها من الأمم عندما نعلم أن الله سبحانه وتعالى أوكل حفظ الكتب السابقة لأتباع الأنبياء من الأحبار والرهبان، وهذا مذكور في قول الباري عز وجل: {بما استحفظوا من كتاب الله} (المائدة:44)، لكنهم لم يصونوا هذا العهد وما رعوه حق رعايته فغيروا وحرفوا، وزادوا ونقصوا، فتوعدهم الله بقوله: { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون} (آل عمران:79)، في حين أن الله تعالى تولى حفظ الكتاب بنفسه فقال:{ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر:9) وكان موقف المسلمين من كتابهم مغايرا للأمم السابقة فحفظوا القرآن بالصدور والسطور حتى ما عاد هناك مجال للتبديل والتغيير فيه.

ونجد أن في إنزال كتب سماوية في العصور السابقة تثبيت لقلب النبي –صلى الله عليه وسلم-ومن حوله من المؤمنين بأنهم على الحق المبين، وذلك بالمحاجة لمن أنزلت عليهم الكتب، قال تعالى:{فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين } (يونس:94)، وفي آية أخرى: {ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب} (الرعد:43).

وتتضمن الكتب السماوية السابقة شيئا من البشارات الباقية بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- لتكون دليلا على صدقه وبعثته، وبمثل هذا كتب الله السعادة لأولئك النفر من الأنصار, الذين قالوا: "تعلمون والله إنه النبي الذي توعدكم به اليهود فلا يسبقنكم إليه"، بل إن بقاء تلك البشارات تعد دليلا ماديا قاطعا لمن أراد الاستيثاق من حقيقة نبوته عليه الصلاة والسلام في عصورنا المتأخرة، وهو ما يسميه علماء الآثار بـ"الدليل الأركيولوجي"، فلا تزال الأيام تكشف لنا عن جملة من المخطوطات التي جاء فيها ذكر اسم النبي –صلى الله عليه وسلم- وبيان أوصافه وشمائله، وصفات أتباعه والمؤمنين به، وأوصاف المنطقة التي بعث فيها، في دقة تدهش الباحثين، حتى بلغ الأمر بهذه المخطوطات أن ورد فيها ذكر ماء زمزم ووضوء الصحابة ومكة وغير ذلك.

هذه بعض فوائد الإيمان بالكتب السماوية، وهي فوائد عظيمة وجليلة. ولا ريب أن للإيمان بالكتب السماوية فوائد أخرى لم نأت على ذكرها، لكن يمكن أن يستشعرها كل من أمعن النظر وعاش تجربة الإيمان بها .

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة