علاج الهموم

5 2222

الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، وبعد:
فقد تكلمنا في مقال سابق عن بعض أسباب الهموم، وفي مقالنا هذا نتكلم عن أهم العلاجات للهموم التي تصيب العباد،ولا شك أن أول ما يذكر في العلاج أهمية العقيدة والإيمان وأثرهما في المعالجة، فترى كثيرا من الكفار وكذلك ضعفاء الإيمان يصابون بالانهيار أو يقدمون على الانتحار للتخلص من الكآبة والحبوط واليأس إذا ماوقعوا في ورطة، أو أصابتهم مصيبة.

 وكم ملأت المستشفيات من مرضى الانهيارات العصبيةوالصدمات النفسية وكم أثرت هذه الأمور على كثير من الأقوياء ، فضلا عن الضعفاء ،وكم أدت إلى العجز التام أو فقدان العقل والجنون.
أما من اهتدى بهدي الإسلام وكان صحيح العقيدة قوي الإيمان فإنه يجد العلاج فيما أتى من لدن العليم الخبير الذي خلق الخلق وهو أعلم بما يصلحهم {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}[الملك:14]. فهلم إلى استعراض شيء من أنواع العلاجات التي جاءت في هذه الشريعة:
 أولا : التسلح بالإيمان المقرون بالعمل الصالح
قال الله تعالى{من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}[النحل:97].
وسبب ذلك واضح، فإن المؤمنين بالله الإيمان الصحيح، المثمر للعملالصالح المصلح للقلوب والأخلاق والدنيا والآخرة، معهم أصول وأسس يتعاملون بها معكل ما يرد عليهم من أنواع المسرات والأحزان، فيتلقون النعم والمسار بقبول لها،وشكر عليها، ويستعملونها فيما ينفع، فإذا فعلوا ذلك أحسوا ببهجتها وطمعوا في بقائهاوبركتها ورجاء ثواب شكرها وغير ذلك من الأمور العظيمة التي تفوق بخيراتها وبركاتهاتلك المسرات.
ويتلقون المكاره والمضار والهم والغم بالمقاومة لما يمكنهم مقاومته وتخفيف ما يمكنهم تخفيفه، والصبر الجميل لما ليس لهم عنه بد ، فيحصلون منافع كثيرة من جراء حصول المكاره، ومن ذلك: المقاومات النافعة ،والتجارب المفيدة ،وقوة النفس ،وأيضا الصبر واحتساب الأجر والثواب وغير ذلك من الفوائد العظيمة التي تضمحل معها المكاره، وتحل محلها المسار والآمال الطيبة، والطمع في فضل الله وثوابه،كما عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا المعنى في الحديث الصحيح بقوله : "عجبالأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلاللمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإنأصابته ضراء صبر فكان خيرا له"
وهكذا يكون النظر الإيجابي إلى الابتلاء ، ومن ذلك :
ثانيا: النظرفيما يحصل للمسلم من تكفير الذنوب وتمحيص القلب ورفع الدرجة ، إذا أصابته غم ومالدنيا وهمومها :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما يصيب المسلممن نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتىالشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه " وفي رواية مسلم : "ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصبولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر به من سيئاته".
فليعلم المهموم أن ما يصيبه من الأذى النفسي نتيجة للهم لا يذهب سدى بل هو مفيد في تكثير حسناته وتكفير سيئاته، وأن يعلمالمسلم أنه لولا المصائب لوردنا يوم القيامة مفاليس كما ذكر بعض السلف، ولذلك كانأحدهم يفرح بالبلاء كما يفرح أحدنا بالرخاء.
وإذا علم العبد أن ما يصيبه من المصائب يكفر عنه سيئاته فرح واستبشر، وخصوصا إذا عوجل بشيء بعد الذنب مباشرة كما وقع لبعض الصحابة رضي الله عنهم فيما رواه عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أن رجلا لقي امرأة كانت بغيا في الجاهلية فجعل يلاعبها حتى بسط يده إليها فقالت المرأة مه فإنا لله عز وجل قد ذهب بالشرك وقال عفان مرة ذهب بالجاهلية وجاءنا بالإسلام فولى الرجل فأصاب وجهه الحائط فشجه ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال أنت عبد أراد الله بك خيرا، إذا أرادالله عز وجل بعبد خيرا عجل له عقوبة ذنبه وإذاأراد بعبد شرا أمسك عليه بذنبه حتى يوفى به يوم القيامة كأنه عير "
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الله إذا أراد بعبد خيرا عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبد شرا أمسك عنه حتى يوافى يوم القيامة بذنبه"
ثالثا:معرفة حقيقة الدنيا
يعلم المؤمن أن الدنيا فانية، ومتاعها قليل، وما فيها من لذة فهي مكدرة ولا تصفو لأحد. إن أضحكت قليلا أبكت طويلا، وإن أعطت يسيرا منعت كثيرا، والمؤمن فيها محبوس كما قال رسول الله صلى الله عليهوسلم : "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر".
وهي كذلك نصب وأذى وشقاء وعناء ولذلك يستريح المؤمن إذا فارقها كما جاء عن أبي قتادة بن ربعي الأنصاري أنه كان يحدث أنرسول الله صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة فقال "مستريح ومستراح منه". قالوا: يا رسول الله ماالمستريح والمستراح منه؟ قال:"العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبد الفاجريستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب".
وموت المؤمن راحة له من غموم دار الدنيا وهمومها وآلامها كمافي الحديث : "إذا حضر المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرةبيضاء فيقولون: اخرجي راضية مرضيا عنك إلى روح الله وريحان ورب غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح المسك حتى أنه ليناوله بعضهم بعضا حتى يأتون به باب السماء فيقولون ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض، فيأتون به أرواح المؤمنين فلهم أشد فرحا به من أحدكم بغائبه يقدم عليه، فيسألونه ماذا فعلفلان؟ ماذا فعل فلان؟ فيقولون: دعوه فإنه كان في غم الدنيا..."الحديث.
إن هذا المعنى الذي يدركه المؤمن لحقيقة الدنيا يهون عليه كثيرامن وقع المصاب وألم الغم ونكد الهم لأنه يعلم أنه أمر لا بد منه فهو من طبيعةهذه الحياة الدني
رابعا: ابتغاء الأسوة بالرسل والصالحين واتخاذهم مثلا وقدوة
وهم أشد الناس بلاء في الدنيا ، والمرء يبتلى على قدر دينه ، والله إذاأحب عبدا ابتلاه وقد سأل سعد رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال:يارسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: "الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كاندينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة ".
خامسا: أن يجعل العبد الآخرة همه
فهموم الدنيا تشتت النفس وتفرق شملها، فإذا جعل العبد الآخرة همه جمع الله له شمله وقويت عزيمته، كما روى أنسرضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كانت الآخرةهمه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له".
قال ابن القيم رحمه الله: إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمل الله عنه سبحانه حوائجه كلها، وحمل عنه كل ما أهمه، وفرغ قلبهلمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته، وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمله اللههمومها وغمومها وأنكادها ووكله إلى نفسه، فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم، فهو يكدح كدح الوحوش في خدمةغيره ... فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بلي بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته. قال تعالى : {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين}[الزخرف:36].
 سادسا: علاج مفيد ومدهش وهو ذكر الموت
لقوله صلى الله عليه وسلم : "أكثروا ذكر هادم اللذات: الموت، فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه". 
سابعا: دعاء الله تعالى
وهذا نافع جدا ومنه ما هو وقاية، ومنه ما هوعلاج، فأما الوقاية فإن على المسلم أن يلجأ إلى الله تعالى ويدعوه متضرعا إليه بأنيعيذه من الهموم ويباعد بينه وبينها ، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخبرنا خادمه أنس بن مالك رضي الله عنه عن حاله معه بقوله: كنت أخدم رسول الله صلىالله عليه وسلم إذا نزل فكنت أسمعه كثيرا يقول :" اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والبخل والجبن وضلع الدين وغلبة الرجال".
وهذاالدعاء مفيد لدفع الهم قبل وقوعه والدفع أسهل من الرفع.
ومن أنفع ما يكون في ملاحظة مستقبل الأمور استعمال هذا الدعاء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوبه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليهوسلم يقول: "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري،وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي من كل شر ".
فإذا وقع الهم وألم بالمرء، فباب الدعاء مفتوح غير مغلق، والكريم عز وجل إن طرق لديه الباب وسئل أعطي وأجاب.. يقول جل وعلا :{وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون}[البقرة:186]
ومن أعظم الأدعية في إذهاب الهم والغم والإتيان بعده بالفرج: الدعاء العظيم المشهور الذي حث النبي صلى الله عليه وسلم كل من سمعه أن يتعلمه ويحفظه :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال:اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك،ماض في حكمك ،عدل في قضاؤك ،أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو علمته أحدا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرجا"قال: فقيل :يا رسول الله ألا نتعلمها؟ فقال: "بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها ".
هذا الحديث العظيم الذي يتضمن اعتراف العبد أنه مملوك لله وأنه لا غنى له عنه وليس له سيد سواه، والتزام بعبوديته وإعلان الخضوع والامتثال لأمره ونهيه ، وأن الله يصرفه ويتحكم فيه كيف يشاء وإذعان لحكم الله،ورضى بقضائه وتوسل إلى الله بجميع أسمائه قاطبة ، ثم سؤال المطلوب ونشدان المرغوب.
وقد ورد في السنة النبوية أدعية أخرى بشأن الغم والهم والكرب ومنها :
عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لاإله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم ".
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر قال : "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث".
وعن أسماء بنت عميس قالت: قال لي رسول الله صلىالله عليه وسلم :"ألا أعلمك كلمات تقولينهن عندالكرب أو في الكرب، الله الله ربي لا أشرك به شيئا".
ومن الأدعية النافعة في هذا الباب أيضا ما علمناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت...".
فإذا لهج العبد بهذه الأدعية بقلب حاضر، ونية صادقة، مع اجتهاده في تحصيل أسباب الإجابة، حقق الله له ما دعاه ورجاه وعمل له ، وانقلب همه فرحا وسرورا.
والدعاء إذا كان من قلب معمور بالإيمان أزال الهم وجلب الفرج بإذن الله تعالى.
 وقد ذكر أهل العلم قصصا كثيرة لأناس دعوا الله في محن وكرب فأجاب الله دعاءهم فخلصهم من عدو أو من غرق أو من جوع ومهلكة ومن ذلك ما وقع للصحابي الجليل العلاء الحضرمي وكان من سادات العلماء العباد ومن أولياء الله مجابي الدعوة حدث له في غزوة المرتدين من أهل البحرين أنه نزل منزلا فلم يستقر الناس على الأرض حتى نفرت الإبل بما عليها من زاد الجيش وخيامهم وشرابهم، وبقوا على الأرض ليس معهم شيء سوى ثيابهم-وذلك ليلا-ولم يقدروا منها على بعير واحد، فركب الناس من الهم والغم ما لا يحد ولا يوصف، وجعل بعضهم يوصي إلى بعض ( لقرب شعورهم بالموت )، فنادى منادي العلاء فاجتمع الناس إليه، فقال: أيها الناس ألستم المسلمين؟ ألستم في سبيل الله؟ ألستم أنصار الله؟ قالوا: بلى، قال: فأبشروا فوالله لا يخذل الله من كان في مثل حالكم، و نودي بصلاة الصبح حين طلع الفجر فصلى بالناس، فلما قضى الصلاة جثا على ركبتيه وجثا الناس، ونصب في الدعاء ورفع يديه وفعل الناس مثله حتى طلعت الشمس، وجعل الناس ينظرون إلى سراب المشمس يلمع مرة بعد أخرى وهو يجتهد في الدعاء فلما بلغ الثالثة إذا قد خلق الله إلى جانبهم غديرا عظيما من الماء القراح، فمشى ومشى الناس إليه فشربوا واغتسلوا، فما تعالى النهار حتى أقبلت الإبل من كل فج بما عليها لم يفقد الناس من أمتعتهم سلكا، فسقوا الإبل عللا بعد نهل. فكان هذا مما عاين الناس من آيات الله بهذه السرية. (البداية و النهاية : ذكر ردة أهل البحرين وعودتهم).
ـــــــــــــــــــــ
علاج الهموم للشيخ المنجد

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة