غزوة بني النضير والدروس المستفادة

1 1897

هم قوم من اليهود يجاورون المدينة، وكان بينهم وبين المسلمين عهد سلم، ولكن طبيعة الشر والغدر المتأصلة في اليهود أبت إلا أن تحملهم على نقض عهدهم، فاليهود كانوا وما زالوا يحقدون على الإسلام والمسلمين، إلا أنهم ليسوا أصحاب حرب، بل أهل دس ومؤامرة، فكانوا يختارون أنواعا من الحيل، لإيقاع الإيذاء بالمسلمين دون أن يقوموا بالقتال، ولكنهم بعد وقعة أحد، أظهروا العداوة والغدر، وأخذوا يتصلون بالمنافقين وبالمشركين من أهل مكة، ويعملون لصالحهم ضد المسلمين .

ثم ازدادوا جرأة، وسول لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم، حيث دبروا مؤامرة خبيثة تستهدف قتل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وذلك حينما جاءهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستعين بهم في دية قتيلين من بني عامر، كان بينهم وبين بني النضير عقد وحلف، فقالوا: نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه، وجلس النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى جنب جدار من بيوتهم، فخلا بعضهم ببعض فقالوا ـ كما ذكر ابن هشام في سيرته ـ : " إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد، فمن رجل يعلوا على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه؟، فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب أحدهم فقال : أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال، ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي ـ رضوان الله عليهم ـ ، فأتى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الخبر من السماء بما أراد القوم فقام وخرج راجعا إلى المدينة " .
ثم أرسل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ محمد بن مسلمة إلى يهود بني النضير، يخبرهم بأن يخرجوا من المدينة ولا يساكنوا المسلمين، وأمهلهم عشرة أيام، فمن وجد بعد ذلك قتل .

فتأهبوا للخروج، ولكن المنافقين تدخلوا، وأخبروهم أنهم معهم ضد المسلمين، وأرسل إليهم عبد الله بن أبي بن سلول من يقول لهم : اثبتوا وتمنعوا، وإن قوتلتم قاتلنا معكم .
وهنا عادت لليهود ثقتهم، واستقر رأيهم على المناورة، وطمع رئيسهم حيي بن أخطب فيما قاله رأس المنافقين، فبعث إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : إنا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك .. وفي ذلك يقول الله تعالى: { ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون }(الحشر:11) .

فلما بلغ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جواب حيي بن أخطب، كبر وكبر أصحابه، ثم سار إليهم، يحمل لواءه علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ بعد أن استخلف على المدينة عبد الله ابن أم مكتوم ، وكانت غزوة بني النضير التي جرت أحداثها في السنة الرابعة للهجرة، حيث فرض عليهم الحصار، ولجأ اليهود إلى الحصون، واحتموا بها، وأخذوا يرمون المسلمين بالنبل والحجارة، وكانت نخيلهم وبساتينهم عونا لهم في ذلك، فأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقطع بعضها وتحريقها.
وقد نزل القرآن الكريم بتصويب ما فعله رسول الله ـ صلى الله عليه سلم ـ، وذلك في قول الله تعالى: { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين } (الحشر:5) .. وقد استدل جمهور الفقهاء بذلك على أن الحكم الشرعي في أشجار العدو وإتلافها منوط بما يراه الإمام أو القائد من مصلحة في إيذاء الأعداء ..

ولم يطل الحصار، فقد دام ست ليال فقط، وقيل خمس عشرة ليلة، حتى قذف الله في قلوبهم الرعب فاندحروا واستسلموا، وأرسلوا للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يريدون الخروج من المدينة، فوافق ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أن يجليهم ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل إلا من السلاح ..
فخرج اليهود يجرون ذيول الخيبة والهزيمة، بعد أن خربوا بيوتهم، فكان الرجل منهم يهدم بيته حتى يخلع بابه فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به .. فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، وغنم المسلمون أرضهم وديارهم وأموالهم وأسلحتهم ..

ومن خلال غزوة بني النضير ظهرت صفات الغدر والخيانة المتأصلة في نفوس اليهود، وتلك حقيقة تاريخية صدقها الواقع إلى يومنا هذا، وذلك سر لعنة الله التي حاقت بهم، وسجلها الله ـ عز وجل ـ عليهم بقوله: { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون }(المائدة:78 )، وقال تعالى: { فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق }(النساء: من الآية155).

وكذلك أظهرت هذه الغزوة، وسورة الحشر التي نزلت من أجلها، أن من طبائع وصفات اليهود والمنافقين الخوف والجبن، قال تعالى: { لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون }(الحشر:14)..
فبأسهم وشدتهم التي يوصفون بها إنما هي بينهم إذا اقتتلوا، ولو قاتلوكم لم يبق ذلك البأس وهذه الشدة، لأن الشجاع يجبن، والعزيز يذل عند محاربة الله ورسوله، وفي ذلك تعريف للمؤمنين بحقيقة اليهود وصفاتهم، وتشجيعهم على قتالهم، وتبشيرهم بالنصر عليهم..

وقد أكدت غزوة بني النضير وغيرها من أحداث سيرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعد الله لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحفظه وحمايته، في قوله تعالى: { والله يعصمك من الناس }(المائدة: من الآية67)، فقد أخبره الله بما يدبره اليهود لقتله، ومن ثم ففي هذه الآية والمعجزة وغيرها، ما يجب أن يحمل الناس على الإيمان بنبوة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..

إن المتأمل في هذه الغزوة، يتبين له أن الله ـ عز وجل ـ هو الذي أخرج يهود بني النضير من ديارهم، في حين أن كل الأسباب المادية كانت معهم حتى اعتقدوا أنه لا أحد يستطيع أن يخرجهم من حصونهم لمتانتها وقوتها، لكن الله فاجأهم من حيث لم يحتسبوا، وجاءهم من قلوبهم التي لم يتوقعوا أنهم يهزمون بها، فقذف فيها الرعب، فإذا بهم يهدمون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، ومن ثم فإن من الدروس الهامة من هذه الغزوة :

تربية الأفراد والأمة على أن النصر من الله ـ عز جل ـ، وربط الأحداث بفاعلها الحقيقي وهو الله رب العالمين، وبيان أن جنود الله كثيرة لا يعلمها أحد إلا الله، قال الله تعالى: { وما يعلم جنود ربك إلا هو }(المدثر: من الآية31)، وقال تعالى: { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار }(الحشر:2) ..

لقد كان من أهمية غزوة بني النضير وعظمها، أن تحدث القرآن الكريم عنها في سورة كاملة، وهي سورة الحشر، حتى سمى عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ سورة الحشر بسورة بني النضير. فعن سعيد بن جبير ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت لابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: ( سورة الحشر، قال: قل سورة بني النضير )(البخاري).

وفي هذه السورة وصف الله طرد اليهود، وفضح مسلك المنافقين، وبين أحكام الفيء، وأثني على المهاجرين والأنصار، وبين جواز القطع والحرق في أرض العدو للمصالح الحربية، وأن ذلك ليس من الفساد في الأرض، وأوصي المؤمنين بالتزام التقوى والاستعداد للآخرة، ثم ختمها بالثناء على نفسه وبيان أسمائه وصفاته، وهكذا كان المجتمع المسلم يتربى على التوحيد، وتعظيم منهج الله، والاستعداد ليوم القيامة ..

تمر السنون والأعوام، وتظل سيرة وغزوات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عامة ومع اليهود خاصة ـ، نبراسا وهاديا، يضيء لنا الطريق، في تعاملنا مع أعداء الأمس واليوم والغد ..

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة