أفضل مقامات العبد

6 989

أكمل الخلق عند الله من استكمل كل مراتب الجهاد، والخلق متفاوتون في منازلهم عند ربهم تفاوتهم في مراتب الجهاد. والنبي – صلى الله عليه وسلم – كما قال -ابن القيم-: كانت ساعاته موقوفة على الجهاد بقلبه ولسانه ويده، ولهذا كان أرفع العالمين ذكرا، وأعظمهم عند الله قدرا. فهو – صلى الله عليه وسلم – أكمل الخلق وأحبهم إلى الله لأنه قام بكل أنواع الجهاد، وجاهد في الله حق جهاده، استجابة لأمر مولاه: " وجاهدوا في الله حق جهاده"( سورة الحج:77)، وشمر عن ساق الجهاد منذ بعث إلى أن لحق بالرفيق الأعلى، فلما نزل عليه قول الله تعالى : “ يا أيها المدثر {1} قم فأنذر {2} وربك فكبر {3} وثيابك فطهر {4}والرجز فاهجر {5} ولا تمنن تستكثر {6} ولربك فاصبر {7}،دعا إلى الله وصدع بأمره، وبلغ الإنس والجن. إلى أن لحق بالرفيق الأعلى

إن إنذار البشرية وإيقاظها وإرشادها إلى طريق النجاة واجب ثقيل، والإنذار هو أظهر ما في الرسالة، وفيه تتجلى رحمة الله بعباده "قم فأنذر " قم للأمر العظيم فقد مضى وقت النوم والراحة وبدأ عهد الجهاد الطويل الشاق لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وهذا مقام الدعوة، وهو أفضل مقامات العبد على حد تعبير ابن القيم.
"ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين" ( فصلت:33)
وتشوف الموفقون من نبلاء هذه الأمة إلى هذا المقام الرفيع وحرصوا عليه مهما لاقوا في سبيله من عقبات ومشاق، حتى إننا لنعجب من الأفق الذي بلغه الإمام حسن البنا وهو يقول : وددت أن أبلغ هذه الدعوة للطفل في بطن أمه"
وإنذار المتكبرين والمتألهين يحتاج إلى إيمان عميق وذخيرة عظيمة ورصيد كبير من الشعور بجلال الله وكبريائه، وبدون تعظيم كامل لله لا تتأتى عملية الإنذار " وربك فكبر " فالله وحده هو الكبير ؛ بل هو أكبر من كل شيء فتتوارى في قلب المؤمن القوى والأجرام والأشخاص، فإذا كل كيد وكل قوة قد انمحت في ظلال الكبير المتعال، وهذا هو زاد الداعي إلى الله وهو يواجه أهوال الدعوة ومشاقها.
تطهير فريد
وثم أمر آخر لجذب الناس إلى رواق الإسلام ألا وهو طهارة القلب وزكاة النفس وحسن الخلق، "وثيابك فطهر" وفيه إلماح إلى تطهير الظاهر والباطن، وطهارة الذات التي تحويها الثياب، وتزكية النفس إلى أقصى حد وكمال يمكن للنفس أن تبلغه حتى يكون المبلغ عن الله أعلى مثال تجتذب إليه القلوب السليمة، وتحس بهيبته القلوب الزائغة. فما لم يكن الداعي نقي الظاهر والباطن صادقا وفيا سلوكه فوق النقد منزه عن المنفر القولي والفعلي : كالفحش والفظاظة والغلظة، فإن إنذاره قليل الجدوى ضئيل النفع. وطهارة القلب عطاء من الله ومنحة لكل من يجاهد في الله نفسه وهواه، يحرم منها من استحوذ الشيطان عليه "أولـئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم" (المائدة : 55)
تطهير بعد تطهير
ولأهمية التزكية على طريق الدعوة إلى الله يأتي التأكيد على اجتناب كل ما يؤدي إلى موجبات العذاب وسخط الله من رجس الأخلاق والفحش الحسي والمعنوي والعادات الخادشة للمروءة "والرجز فاهجر" وهذا كلام جامع لمحاسن الأخلاق، اهجر الجفاء والسفه وكل قبيح ولا تتشبه بأخلاق الجاهلين .. اهجر كل ما يؤدي للعذاب ولا تتلبس بشيء من ذلك . ومجيء هذا الأمر في سياق الأمر بالإنذار يشعر أن المتلبس بالمعاصي ومنكرات الأخلاق لا يكتب لدعوته النجاح، ففي سنن أبي داوود عن سهل بن الحنظلية قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول : " ... فإنالله لا يحب الفحش ولا التفحش" والحديث صححه ابن حجر في الأمالي المطلقة وابن مفلح والنووي وصححه السيوطي والحاكم والذهبي. وفي التنزيل : "ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك " ( آل عمران : 159)
إنكار الذات من غير ضعف
الداعي لا يعد أفعاله فخيمة عظيمة ، بل لا يزال يجتهد في عمل بعد عمل، ونصب بعد نصب، ويبذل الكثير ولا يضعف أن يستكثر من الخير، ثم ينسى كل ذلك ولا يحس بل لا يشعر بما قدم وبذل، فالتوفيق للدعوة اختيار واصطفاء وتكريم يستحق الشكر لا المن والاستكثار.
 
فالدعوة لا تستقيم في نفس تحس بما تبذل في جنب الله. ولا يزول عجبي من الداعية الكويتي الدكتور عبد الرحمن السميط، وقد أسلم على يديه عدد هائل من الأفارقة ويعتبر نفسه بأنه لا زال مقصرا، والتحدث بهذه الأرقام لا يروق له، لأن (الله عز وجل لا يتعامل بالأرقام، والأهم هو ما عند الله )، ويقول (أتمنى لو أعفوني من هذه الألقاب وتركوني أكمل مشواري، أنا أكثر الناس معرفة بنفسي، وأنا متأكد أنني مقصر تجاه أمتي وإخواني والإنسانية بصفة عامة )
الزاد الأصيل:
الوصية بالصبر تتكرر عند كل تكليف لأداء رسالات الله وتعليم الدين، ودعوة الخلق، والصبر هو الزاد الأصيل في مواجهة أعداء الدعوة وشهوات النفوس، وتغيير معتقدات الناس واهتماماتهم التافهة، وتقاليدهم البالية، فلا تجزع من أذى المخالفين، واصبر على أذاهم لوجه ربك، وابتغاء نوال الثواب، فإنك حملت أمرا عظيما ستحاربك عليه العرب والعجم.
هذا هو الترياق الرباني والزاد الإيماني يغترف منه كل داع إلى سبيل الله، ليشفي البشرية من أمراض قلوبها المزمنة، وأهوائها الفاسدة، حتى يأخذ بأيديهم صعدا إلى المرتقى السامي، على درب الوصول إلى الله والحياة الطيبة في الدنيا والآخرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
عبدالعظيم عرنوس

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة