سترة النجاة عند نزول الفتن

3 1026

معالم نبوة النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – لا تكاد تحصى لكثرتها، فقد أطلعه الله على كثير من أمور الغيب لتكون منارة للباحثين عن الحق في كل زمان ومكان، ولأن الرسالة الخاتمةرسالة عامة إلى قيام الساعة فقد أطلع الله عز وجل نبيه على أمور غيبية تتكشف شيئا فشيئا في كل زمان لتكون رصيدا لكل من أراد أن يؤمن بهذا الدين. (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول ...) الجن (25-27) .

نهج قويم ليس يشبه منهجا ** في كل عصر لا يمل عطاء
وهذا الحديث الذي بين أيدينا هو من هذه المعالم النبوية. روى البخاري في صحيحه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فزعا يقول: سبحان الله، ماذا أنزل الله من الخزائن، وماذا أنزل من الفتن، من يوقظ صواحب الحجرات - يريد أزواجه - لكي يصلين؟ رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة..
وهكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم رؤوفا رحيما بأمته، يضطرب قلبه وفؤاده فزعا مما قد يصيب أمته، فقد استيقظ في هاتيك الليلة فزعا خائفا وجلا مما شاهده، فأنذر وذكر وأرشد ونصح.
تسبيح في مقام التعجب والتنظيم
وعندما يرى المرء ما يعجبه ويستعظمه يشرع له أن يسبح ربه عز وجل، ولما رأى النبي الرحمات النازلة وهي المعبر عنها بالخزائن، وما قد يتولد عن هذه الخزائن من فتن فزع النبي صلى الله عليه وسلم فسبح ربه تعالى، وقد جاء التعبير عن الرحمة بالخزائن؛ كقوله تعالى: (خزائن رحمة ربك)(سورة ص 8)، وعبر عن العذاب بالفتنة لأنها أسبابه.
خزائن الرحمة
وهذا إشارة إلى الفتوح الإسلامية الكثيرة التي ستتم على أيدي هذه الأمة ومنها: فتح بلاد فارس والروم اللذين وقعا في عهد الخلفاء الراشدين، والأموال الكثيرة الطائلة التي غنمها المسلمون منهما.
خزائن في طياتها فتن
وينتج في بعض الأحايين عن الرخاء وبسطة الرزق ورغد العيش وكثرة المال فتنة لأصناف من الناس، لذا نجد النبي صلى الله عليه وسلم ذكر بعد إنزال خزائن الرحمات وبركات الأرض نزول الفتن. قال ابن بطال: إن المفتوح في الخزائن تنشأ عن فتنة المال، بأن يتنافس فيه فيقع القتال بسببه، وأن يبخل به فيمنع الحق، أو يبطر فيسرف.
وقد قال النبي متخوفا على أمته فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض، قيل: وما بركات الأرض؟ قال: زهرة الدنيا]!
فانظر بعين عقلك إلى ما قد يتولد من بسطة الرزق وبركات الأرض من فتن، وهذا من ابتلاء السراء والخير، وإنه لابتلاء وأي ابتلاء، ولعمري إن ابتلاء السراء لهو أشد ضررا على كثير من الأنام من ابتلاء الضراء . (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون)(الأنبياء:34) , روى الترمذي عن كعب بن عياض رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال]. والحديث قال عنه الترمذي حسن صحيح.
سترة النجاة:
قال الله عز وجل في سورة الإسراء: (وما نرسل بالآيات إلا تخويفا)(الإسراء:59)، ومن السنة أن يفزع الإنسان إلى الصلاة والدعاء والتضرع إلى الله عند طروء الآيات المخوفة والشدائد والكربات، لاسيما في الثلث الأخير من الليل لرجاء وقت إجابة الدعاء، لتكشف ويسلم الداعي ومن دعا له. روى أبو داود عن حذيفة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى . حسنه ابن حجر والألباني. وقال تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة)(البقرة:44) . وهذه الأمور مما يرجى أن يدفع الله بها الفتن، وأعمال البر كذلك، روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا].
والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بإيقاظ أزواجه لكي يصلين، ليتعرضن للرحمة ويتخلصن من العذاب، وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بأهل بيته ليكن قدوة لغيرهن في هذا المجال قال تعالى: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها)(طه:131). وقال الشاعر وليد الأعظمي:
وابدأ بأهلك إن دعوت فإنهم *** أولى الورى بالنصح منك وأقمن
وقد نوع الله أعمال البر ليأخذ كل عبد منها ما يدرأ بها الفتن عن نفسه وأمته.
صور من المفتونين
رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة
وأكثر الناس تخدعهم الدنيا بزخرفها وزينتها، ويخطف أبصارهم البرق الخادع كلما أضاء لهم مشوا فيه، (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)(يوسف:102). و"رب" ترد للتكثير في الأغلب كما ذهب إليه ابن مالك، قال ابن حجر: والصحيح أن معناها – في الغالب – التكثير، وهو مقتضى كلام سيبويه والحديث شاهد لذلك، فليس مراده أن ذلك قليل؛ بل المتصف بذلك كثير من النساء، قال الطيبي: المراد بـ "رب" هنا التكثير، والصحيح أيضا أن الذي يصدر بـ "رب" مضيه وحضوره واستقباله، وقد اجتمع في الحديث الحضور والاستقبال.
وما قاله حق ومشاهد، فكم من نفس كاسية في الدنيا بالثياب النفيسة لغناها، عارية في الآخرة من الثواب لعدم العمل الصالح، وكم من نفس كاسية في الدنيا بثياب شفافة رقيقة واصفة للجسم لا تستر العورة، -واسألوا الأسواق والشواطئ- فتعاقب في الآخرة بالعري عقابا. وكم من نفس كاسية من نعم الله التي لا تحصى عارية من الشكر الذي ثمرته الثواب (وقليل من عبادي الشكور)(ص:13) قال الزهري: وكانت هند لها أزرار في كميها بين أصابعها لأنها كانت تخشى أن يبدو من جسدها شيء فتدخل في قوله صلى الله عليه وسلم : كاسية عارية .
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يلبس الثياب الشفافة لأنه إذا حذر من لبسها من ظهور العورة كان أولى بصفة الكمال من غيره. أفاده ابن حجر رحمه الله.
وقد آثرت أن يشمل المعنى الذكور والإناث على تقدير "نفس أو نسمة" كاسية، وإن كان جل شراح الحديث قصروا المعنى على النساء. قال علي القاري: رب كاسية – امرأة أو نفس – لابسة في الدنيا من ألوان الثياب وأنواع الزينة من الأسباب، عارية في الآخرة من أصناف الثواب، وفاضحة عند الحساب.
وعين الموفق بصر فرس لأنه يرى في الظلمة كما يرى في الضوء، فيتجنب مهاوي ومزالق الفتن، وما أكثر الفتن في زماننا، فاللهم إنا نعوذ بك من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عبدالعظيم عرنوس

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة