النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبحيرا

1 2100

كانت طفولة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حافلة بالأحداث ، فقد نشأ - صلى الله عليه وسلم ـ يتيما ، حيث توفي والده قبل مولده ، فتولى أمره جده عبد المطلب ، الذي اعتنى به أفضل عناية ، وشمله بعطفه واهتمامه ، واختار له أكفأ المرضعات ، وأمضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ سنواته الأولى في صحراء بني سعد ، فنشأ قوي البنية ، سليم الجسم ، فصيح اللسان .

ولما بلغ عمره ست سنين توفيت أمه في قرية يقال لها " الأبواء " بين مكة والمدينة ، فعوضه جده عبد المطلب حنان والديه ، وقربه إليه وقدمه على سائر أبنائه .
واستمرت هذه الرعاية طيلة سنتين حتى توفي عبد المطلب وللنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثمان سنين ، فكفله عمه أبو طالب وقام بحقه خير قيام ، وقدمه على أولاده ، واختصه بمزيد عناية وتقدير .

ولما بلغ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ اثنتي عشرة سنة خرج به أبو طالب تاجرا إلى الشام حتى وصل إلى بصرى ، وكان في هذه البلد راهب عرف ببحيرا ، له مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قصة روتها كتب السيرة والسنة .

ولنستمع إلى أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ يحدثنا عنها في القصة التي حسنها الترمذي ، وصححها الحاكم وابن حجر والألباني وغيرهم ، فيقول :
" خرج أبو طالب إلى الشام ، وخرج معه النبي - صلى الله عليه وسلم - في أشياخ من قريش ، فلما أشرفوا على الراهب ، هبطوا فحلوا رحالهم ، فخرج إليهم الراهب ، وكانوا قبل ذلك يسيرون فلا يخرج إليهم ولا يلتفت ، فبينما هم يحلون رحالهم جعل الراهب يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: هذا سيد العالمين ، هذا رسول رب العالمين يبعثه الله رحمة للعالمين ، فقال له أشياخ من قريش : ما علمك ؟ فقال : إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدا ، ولا يسجدان إلا لنبي ، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة ، ثم رجع فصنع لهم طعاما ، فلما أتاهم به ، وكان هو في رعية الإبل قال : أرسلوا إليه ، فأقبل وعليه غمامة تظله ، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فئ الشجرة ، فلما جلس مال فئ الشجرة عليه ، فقال : انظروا إلى فئ الشجرة مال عليه . قال : فبينما هو قائم عليهم ، وهو يناشدهم أن لا يذهبوا به إلى الروم ، فإن الروم إذا عرفوه بالصفة فيقتلونه ، فالتفت فإذا سبعة قد أقبلوا من الروم ، فاستقبلهم ، فقال : ما جاء بكم ؟ ، قالوا : جاءنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر ، فلم يبق طريق إلا بعث إليه بأناس ، وإنا قد أخبرنا خبره ، بعثنا إلى طريقك هذا ، فقال : هل خلفكم أحد هو خير منكم ؟ ، قالوا : إنما اخترنا خيره لك لطريقك هذا ، قال : أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده ؟ ، قالوا : لا ، قال : فبايعوه وأقاموا معه . قال: أنشدكم الله أيكم وليه ؟ ، قالوا : أبو طالب ، فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب .. " .

قال ابن تيمية : " والأخبار بمعرفة أهل الكتاب بصفة محمد - صلى الله عليه وسلم - عندهم في الكتب المتقدمة متواترة عنهم .." .
وقال الإمام الماوردي في ( أعلام النبوة ) : " .. تقدمت بشائر من سلف من الأنبياء ، بنبوة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما هو حجة على أممهم ، ومعجزة تدل على صدقه عند غيرهم ، بما أطلعه الله - تعالى - على غيبه ، ليكون عونا للرسل ، وحثا على القبول ، فمنهم من عينه باسمه ، ومنهم من ذكره بصفته ، ومنهم من عزاه إلى قومه ، ومنهم من أضافه إلى بلده ، ومنهم من خصه بأفعاله ، ومنه من ميزه بظهوره وانتشاره ، وقد حقق الله - تعالى - هذه الصفات جميعها فيه ، حتى صار جليا بعد الاحتمال ، ويقينا بعد الارتياب " .

وقد أثار بعض المستشرقين شبهة تأثر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالأحبار والرهبان من اليهود والنصارى مثل بحيرا الراهب .

والرد على هذه الشبهة الواهية أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمي لا يقرأ ولا يكتب ، ولم يثبت أنه رأى التوراة والإنجيل أو قرأ فيهما أو نقل منهما . كما أنه لم يثبت أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ التقى بأحد من الأحبار والرهبان غير بحيرا ، وذلك أثناء سفره مع عمه أبي طالب وأشياخ قريش ، ولا مجال للتعلم والتلقي ، فضلا عن صغر سن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حينئذ حيث كان في الثانية عشر من عمره ، ولم ينقل هذا الافتراء أحد من أهل مكة .

وفي قصة لقاء بحيرا برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل بعثته وهو ما زال في الثانية عشرة من عمره دليل على أن علماء ورهبان اليهود والنصارى كانوا يعرفونه قبل مبعثه بما يجدونه من أوصافه وزمان خروجه في التوراة والإنجيل ـ قبل تحريفهما ـ ، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في آيات كثيرة ، منها قول الله تعالى : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون } (البقرة:146)، وقوله: { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والأنجيل }(الأعراف: من الآية157)، وقوله : { وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد }(الصف: من الآية6) .

وقد أسلم بعض اليهود وفي مقدمتهم عبد الله بن سلام ، وبعض النصارى وعلى رأسهم النجاشي ملك الحبشة لما علموه من أوصاف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الكتب السابقة .
وامتنع البعض عن الدخول في الإسلام لأسباب مادية أو سياسية أو نفسية ، كما هو الحال في حيي بن أخطب وهرقل ومقوقس مصر ـ رغم علمهم بصدق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونبوته ـ .
ففي حديث هرقل مع أبي سفيان في وصفه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قول هرقل في آخره : ( .. فإن كان ما تقول حقا، فسيملك موضع قدمي هاتين ، وقد كنت أعلم أنه خارج ، لم أكن أظن أنه منكم ) ( البخاري ) ، وفي ذلك يقول الله تعالى : { ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين } (البقرة:89) .

كما أكدت هذه القصة على العداء والحقد القديم من أهل الكتاب على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وظهر ذلك في تحذير بحيرا لعم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ألا يذهب به إلى الروم ، فإن الروم إذا عرفوه سيقتلونه ، إذ كانوا على علم بأن مجيء هذا الرسول سيقضي على نفوذهم بدينه الجديد الذي سيعلو فوق جميع الأديان ، وصدق الله تعالى حيث يقول : { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } (البقرة: من الآية120) .

لقد تعددت الأوصاف في الكتب السماوية السابقة بخاتم النبيين محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلمها أحبارهم ورهبانهم ، ولولا ما حدث في هذه الكتب من تحريف وتزييف ، وما أصاب علماء أهل الكتاب من كبر وحسد ، لكانت النصوص الدالة على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ واضحة وضوح الشمس في وسط النهار .
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة