جلال الدين السيوطي .. المحدث الموسوعي

0 1858

ولد الإمام الحافظ أبو الفضل جلال الدين عبد الرحمن بن كمال الدين أبي بكر بن محمد الخضيري الأسيوطي بمدينة القاهرة في شهر رجب سنة (849هـ)، ونسب إلى أسيوط -مدينة بصعيد مصر- لكونها بلد أبيه التي رحل منها إلى القاهرة لدراسة العلم.

نشأ جلال الدين السيوطي يتيما، فقد توفي والده قبل أن يكمل ست سنوات من عمره، وكان سليل أسرة اشتهرت بالعلم والتدين، حيث كان أبوه من العلماء الصالحين ذوي المكانة العلمية الرفيعة، فاتجه إلى حفظ القرآن الكريم، فأتم حفظه وهو دون الثامنة، ثم حفظ بعض الكتب في تلك السن المبكرة كالعمدة ومنهاج الفقه والأصول وألفية ابن مالك؛ فاتسعت مداركه، وزادت معارفه.

وكان جلال الدين السيوطي محل العناية والرعاية من عدد من العلماء من رفاق أبيه، وتولى بعضهم أمر الوصاية عليه، ومنهم: الكمال ابن الهمام الحنفي، أحد كبار فقهاء عصره، فتأثر به تأثرا كبيرا، خاصة في ابتعاده عن السلاطين وأرباب الدولة.

ارتحل جلال الدين السيوطي في طلب العلم إلى بلاد الحجاز والشام واليمن والهند والمغرب الإسلامي، ثم تجرد للعبادة والتأليف عندما بلغ سن الأربعين.

عاش جلال الدين السيوطي في عصر كثر فيه العلماء الأعلام الذين نبغوا في علوم الدين على تعدد ميادينها، وتوفروا على علوم اللغة بمختلف فروعها، وأسهموا في ميدان الإبداع الأدبي، فتأثر بهذه النخبة الممتازة من كبار العلماء، وألف أول كتبه وهو في سن السابعة عشرة.

كان منهج السيوطي في الجلوس إلى المشايخ هو أن يختار شيخا واحدا يجلس إليه، فإذا ما توفي انتقل إلى غيره، وكان من أبرز شيوخه: محيي الدين الكافيجي وشرف الدين المناوي وتقي الدين الشبلي والمرزباني وجلال الدين المحلي وتقي الدين الشمني وعلم الدين البلقيني.

وأما تلاميذه فمن أبرزهم: شمس الدين الداودي، وشمس الدين بن طولون والمؤرخ الكبير ابن إياس.

مناقبه وثناء الأئمة عليه:

كان إماما حافظا مؤرخا واسع العلم غزير المعرفة، اشتهر في الحديث والتفسير وعلوم القرآن؛ وقد قال عن نفسه: "قد رزقت -ولله الحمد- التبحر في سبعة علوم: التفسير والحديث والفقه والنحو والمعاني والبيان والبديع"، إضافة إلى أصول الفقه والجدل والتصريف، والإنشاء والترسل والفرائض والقراءات والطب، غير أنه لم يقترب من علمي الحساب والمنطق.

قال عنه تلميذه الداودي: "وكان أعلم أهل زمانه بعلم الحديث وفنونه رجالا وغريبا، ومتنا وسندا، واستنباطا للأحكام منه، وأخبر عن نفسه أنه يحفظ مائتي ألف حديث؛ قال: ولو وجدت أكثر لحفظته. قال: ولعله لا يوجد على وجه الأرض الآن أكثر من ذلك".

وقال عنه تلميذه عبد القادر بن محمد: "الأستاذ الجليل الكبير، الذي لا تكاد الأعصار تسمع له بنظير... شيخ الإسلام، وارث علوم الأنبياء عليهم السلام، فريد دهره، ووحيد عصره، مميت البدعة، ومحيي السنة، العلامة البحر الفهامة، مفتي الأنام، وحسنة الليالي والأيام، جامع أشتات الفضائل والفنون، وأوحد علماء الدين، إمام المرشدين، وقامع المبتدعة والملحدين، سلطان العلماء ولسان المتكلمين، إمام المحدثين في وقته وزمانه".

وقال عنه ابن العماد الحنبلي: "المسند المحقق المدقق، صاحب المؤلفات الفائقة النافعة".

وقفات مع سيرته:

أهم ما يمكن أن نقف عليه في حياة الإمام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي -رحمه الله-:

- سعة حفظه وكثرة تأليفه: كان من كبار المحدثين الحفاظ، وقد بلغ عدد ما يحفظه من الأحاديث مائتي ألف حديث، وكان مغرما بجمع الحديث واستقصائه؛ إضافة إلى قلمه السيال، حيث بلغت مؤلفاته نحوا من ست مائة، في الحديث وعلومه والتفسير وعلوم القرآن والفقه واللغة والتاريخ والطبقات، يشتمل الواحد منها على بضعة أجزاء، وفي أحيان أخرى لا يزيد على بضع صفحات.

يقول تلميذه المؤرخ البحاثة ابن إياس: "بلغت عدة مصنفاته نحوا من ست مائة تأليف، وكان في درجة المجتهدين في العلم والعمل".

- ابتعاده عن السلاطين وأرباب الدولة: عاصر الإمام السيوطي ثلاثة عشر سلطانا مملوكيا، وكانت علاقته بهم متحفظة، وطابعها العام المقاطعة، وإن كان ثمة لقاء بينه وبينهم؛ فقد وضع نفسه في مكانته التي يستحقها، وسلك معهم سلوك العلماء الأتقياء، فإذا لم يقع سلوكه منهم موقع الرضا قاطعهم وتجاهلهم.

وكان الأمراء والأغنياء يأتون إلى زيارته، ويعرضون عليه الأموال النفيسة فيردها، وأهدى إليه الغوري عبدا وألف دينار، فرد الألف وأخذ العبد، فأعتقه وجعله خادما في الحجرة النبوية، وقال لقاصد السلطان: لا تعد تأتينا بهدية قط؛ فإن الله تعالى أغنانا عن مثل ذلك، وطلبه السلطان مرارا فلم يحضر إليه، وألف في ذلك كتابا أسماه: (ما وراء الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين).

وفاته:

تمرض الإمام السيوطي بورم شديد في ذراعه اليسرى، فمكث سبعة أيام، ثم توفي في سحر ليلة الجمعة في التاسع عشر من شهر جمادى الأولى عام (911هـ) في منزله بروضة المقياس، وقد استكمل من العمر إحدى وستين سنة وعشرة أشهر وثمانية عشر يوما.

ونقل عنه أنه قرأ عند احتضاره سورة (يس)، وصلى عليه خلائق بجامع الأباريقي بالروضة عقب صلاة الجمعة، وصلى عليه مرة ثانية خلائق لا يحصون، ولم يصل أحد إلى تابوته من كثرة ازدحام الناس، ودفن بحوش قوصون خارج باب القرافة، كما صلي عليه غائبة بدمشق في الجامع الأموي، رحمه الله رحمة واسعة.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة