من أشراط الساعة .. قطيعة الرحم

3 1369


الأسرة في صورتها المشرقة الجميلة التي رسمها الإسلام وأوضح معالمها أشبه ما تكون بالشجرة الكبيرة، تعددت غصونها، وتناثرت عليها ثمارها، ومهما تباينت أحجام هذه الثمار في مواقعها أو أحجامها أو أعمارها، إلا أنها تنطلق من أصل مشترك؛ فالساق واحدة، والجذور التي تمدها بالحياة هي ذاتها، ولو تصورنا لهذه الثمار مشاعر وأحاسيس لكان أبرزها: الشعور بالانتماء لهذه الشجرة.

وكما أن أجساد الأحياء تعود إلى اجتماع الخلايا واصطفافها، وأصول المعادن تعود إلى ذرات تكون بمجموعها كيانا واحدا متماسكا، فكذلك الحال مع الأسرة؛ إذ هي القاعدة لبناء جسم الأمة، وحياة هذه الأسرة وقوتها ضمان لقيام المجتمع المتآلف المنسجم، والسبيل الأوحد لتحقيق هذه الغاية لا يكون إلا بقيام العلاقات الوثيقة بين الأهل والأقارب.

وما سميت الرحم بهذا الاسم إلا لما فيه من داعية التراحم والتعاطف بين ذوي القرابة، وضرورة وجود أسباب التواصل بين أفرادها، فالمطلوب هو توثيق وشائج القربى، وتقوية أواصر التكافل، ولأهمية هذه الصلات قرن الله سبحانه وتعالى الأمر بتقواه، بالأمر ببر الأرحام، والنهي عن قطيعتها فقال: {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام} (النساء:1).

ومن غربة الدين التي تنبأ بها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وجعلها من أشراط الساعة، التهاون في شأن هذه الأرحام وهضم حقوقها، والتقصير في تحقيق متطلباتها، بل أشد من ذلك: القطيعة التامة بين أفراد ذوي القربى.

ونورد استدلالا على هذه القضية حديثين اثنين، أما الأول: حديث أبي سبرة حيث قال: لقيت عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، فحدثني مما سمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأملى علي، فكتبت بيدي، فلم أزد حرفا، ولم أنقص حرفا، حدثني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والتفاحش، وقطيعة الرحم، وسوء المجاورة، وحتى يؤتمن الخائن ويخون الأمين) رواه أحمد.

وعن عبس الغفاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (بادروا بالموت ستا: إمرة السفهاء، وكثرة الشرط، وبيع الحكم، واستخفافا بالدم، وقطيعة الرحم) رواه أحمد، والمقصود بقوله: (بيع الحكم) كناية عن الرشوة التي بها بسببها تبدل الأحكام، والشرط هم أعوان الحكام.

لقد كان الإسلام سباقا إلى الدعوة والتذكير بضرورة إبقاء أسباب التواصل والتكافل بين الأرحام والأقارب، ويظهر ذلك من خلال بيان أنها من علامات الإيمان ودلائله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه) رواه البخاري، ثم إنها من أسباب البركة في الرزق وطول في العمر، كما جاء في حديث أنس المرفوع: (من أحب أن يبسط له في رزقه ، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه) أخرجه البخاري، وهي من الطرق الموصلة إلى الجنة: (يا أيها الناس أفشوا السلام أطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام) رواه أحمد والترمذي وابن ماجة، وقد أخبر الله تعالى عن الرحم وعن لجوئها إليه، ومناشدتها لربها أن ينصفها ممن ظلمها، وأن يجزل العطاء لمن عرف حقها، وبهذا المعنى وردت جملة من الأحاديث نذكر منها: (الرحم متعلقة بالعرش تقول : من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله) رواه مسلم، ومن وصله الله فلن ينقطع حبله أبدا.

ولا تقف أدوات التواصل المطلوب عند حدود التزاور والسؤال عن الأحوال، بل إنها تعني كذلك فيما تعني: عيادة المريض، ومواساة الفقير، والرحمة على الصغير، واحترام الكبير، وكفالة اليتيم، ورعاية ذوي المسافر، والوقوف في أيام الشدائد، وإغاثة الملهوف، وبذل المعروف، وغيرها من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال التي تبذل ولو من طرف واحد: (ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها) رواه البخاري.

وبين الأمس واليوم نجد البون الشاسع والمفارقة الغريبة في العلاقات الأسرية والحفاظ على وشيجة الرحم، لقد كان التلاحم يشكل في السابق صورة القبائل المؤتلفة والعوائل المتحدة ذات الأواصر المتجذرة، وكان من مظاهر هذا التماسك الرحمي: الحفاظ على الأنساب والاهتمام بها تطبيقا لحديث أبي هريرة رضي الله عنه المرفوع: (تعلموا من أنسابكم، ما تصلون به أرحامكم) رواه أحمد، وكنا نجد من يصف غيره بأنه: (من أبناء العمومة) ويقصد بها الاشتراك في أحد الأصول في النسب، وليست العمومة القريبة كما هو ظاهر اللفظ.
ولن نبعد كثيرا إن قلنا أن ذلك الترابط من قوته وشدته قد تجاوز الخطوط في بعض المراحل وظهرت فيه بعض صور الغلو التي نجح الإسلام في علاجها وتهذيبها، كمسألة العصبية القبلية والأخذ بالثارات ونحوهما، فهذه الصور وإن كانت خروجا عن الجادة والصواب، إلا أنها تعكس اهتماما بالروابط والقرابات.

وإلى الأمس القريب كنا نسمع بمفهوم (الأسرة الممتدة)، والمقصود بها كما هو ظاهر: تواجد أربعة أجيال تحت سقف بيت واحد: الأجداد، والآباء، والأبناء، والأحفاد، وهذا التعايش والتقارب الجسدي له أثره في التقارب الوجداني والتآلف الأسري، فيحن الأخ على أخيه، ويسأل الجد عن أحفاده، ويهتم كل فرد بالبقية ولا يتصور الحياة دونها، ويعز عليه فراق هذا الكيان المتكامل المنسجم.

ثم جاءت المدنية المعاصرة وعصور الانفتاح، ليتفكك بنيان الأسرة الذي كان يشمل هذه الأجيال ليعيش كل جيل لوحده، بل قد يعيش أصحاب الجيل الواحد (كالأبناء) كل لوحده، وشيئا فشيئا قل التزاور ووهنت الصلات، فلا تفقد لحاجة المحتاج، ولا سؤال عن الأحوال، ولا مهاتفات أو مراسلات، فضلا عن التشرذم والتفرق والتباعد، والجفوة الحاصلة والعداوات الحاضرة التي تشكو منها المجتمعات، ونرى آثارها في المحاكم والمناشط الاجتماعية ومواقع الاستشارات.

وبعيدا عن حياة المسلمين التي لا تزال بمجملها تحتفظ بخيط قد دب فيه الوهن، فإننا لو ألقينا نظرة على حياة المجتمعات الغربية لرأينا فجوة سوداء مظلمة ما لها من قرار، ومظاهر التفكك الأسري ودواعيه لا تخفى على الناظر، بل صار مجرد تصور الأسرة المتماسكة مجرد حلم جميل من أحلام القرون الماضية ليس له حضور إلا في المسلسلات والروايات، ولا نتحدث هنا عن الرحم بمفهومه الشرعي الممتد، ولكنه الحديث عن القطيعة التامة بين أفراد الأسرة بأصغر أجزائها المعروفة: بين الوالد وما ولد، وبين الأخ وأخيه، وبين الأزواج والزوجات، حتى صرنا نسمع من المضحكات المبكيات أن أما تصف بر ولدها بابنها فتقول: "ولدي لم ينس أن له أما ربته واعتنت به، تصوري أنه لا ينس الاتصال بي في كل عيد! ويبعث إلي ببطاقة تهنئة في عيد الأم!" فهذه هي غاية الوفاء عندهم وسقف آمالهم وتطلعاتهم من مسألة الصلات.

إن هذه القطيعة وصورها التي تأباها النفوس وترفضها الفطر السوية هي مخالفة صريحة لمنهج الله القائم على المودة والحرص على التقارب، وهذا يفسر الوعيد الشديد الوارد في حق المخالفين، قال الله تعالى: { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم*أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم} (محمد:22-23).

وعن أبي بكر رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه بالعقوبة في الدنيا، مع ما يدخر له في الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، وصح عن النبي عليه الصلاة والسلام قوله: (لا يدخل الجنة قاطع رحم) متفق عليه.

وخاتمة القول: إن علينا أن نعرف حق هذه الصلات وندرك أهميتها حتى ننال رضا ربنا، وقد قال علي رضي الله عنه: "عشيرتك هم جناحك الذي بهم تحلق، وأصلك الذي به تتعلق، ويدك التي بها تصول، ولسانك الذي به تقول، هم العدة عند الشدة، أكرم كريمهم، وعد سقيمهم، ويسر على معسرهم، ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك".

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة