من أشراط الساعة .. شح النفوس

3 1247

"شح مطاع"..لافتة تحذيرية رفعها النبي –صلى الله عليه وسلم- في وجه أمته يحذر فيها من فساد آخر الزمان، ضمها إلى جانب لافتات أخرى: هوى متبع، وسوء خلق، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، وقطيعة رحم، وكثرة الهرج والمرج، وانتشار الزنا، وتنزل الفتن، وظهور الربا، واستحلال ما حرم الباري تبارك وتعالى، وغيرها الكثير من القضايا التي تشير بجلاء إلى قرب قيام الساعة.

ومع هذه اللفتة التي نريد الوقوف عندها في هذه الأسطر؛ لنستجلي معناها، ونستبين حقيقتها، ونوضح خطورتها من خلال ميزان الشرع المؤسس لكل خلق قويم، والمحذر من كل خلق رذيل، والمنهج الرباني المهذب للنفوس والمصلح للقلوب من كل آفة وشائبة.

إنه الحديث عن الشح، وعن البخل، والشح كما يعبر ابن منظور: حرص النفس على ما ملكت وبخلها به، وما جاء في التنزيل من الشح فهذا معناه، ومنه قول الله تعالى: { وأحضرت الأنفس الشح} (النساء: 128).

وبين الشح والبخل علاقة وطيدة، وتلازم ظاهر، ولربما ظن البعض أنهما مصطلحان يعبران عن حقيقة واحدة، وأنهما صورتان لوجه واحد، بينما الحال أن بينهما اشتراك من جهة، واختلاف من أخرى، يقول الحافظ ابن حجر في الفتح: " والشح أعم من البخل؛ لأن البخل يختص بمنع المال، والشح بكل شيء، وقيل: الشح لازم كالطبع، والبخل غير لازم".

ونرى ارتباط ظهور الشح وانتشاره بين الناس بأشراط الساعة ماثلا من خلال جملة من الأحاديث النبوية الشريفة، تذكره في جملة الانتكاسات الأخلاقية الحاصلة آخر الزمان، ومن هذه الأحاديث ما قاله أبو هريرة رضي الله عنه: "إن من أشراط الساعة: أن يظهر الشح، والفحش، ويؤتمن الخائن، ويخون الأمين، ويظهر ثياب يلبسها نساء كاسيات عاريات" رواه الطبراني في المعجم الأوسط، ومثل هذا لا يقال بالرأي.

و عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يزداد الأمر إلا شدة، ولا الدنيا إلا إدبارا، ولا الناس إلا شحا) رواه ابن ماجة.

وأصح منهما حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويلقى الشح، ويكثر الهرج) قالوا: وما الهرج؟ قال: (القتل القتل) رواه البخاري ومسلم.

يعلق الإمام النووي في شرحه لمسلم قائلا: "(ويلقى الشح) هو بإسكان اللام وتخفيف القاف، أي: يوضع في القلوب. ورواه بعضهم (يلقى) بفتح اللام وتشديد القاف، أي: يعطى، والشح هو البخل بأداء الحقوق والحرص على ما ليس له".

والتفاوت بين الناس في علاقتهم بزينة الدنيا لمثار عجب ودهشة، وبين السخاء والبخل درجات: فأرفع درجات السخاء الإيثار، وهو أن تجود بالمال مع الحاجة إليه، وأشد درجات البخل: أن يبخل الإنسان على نفسه مع الحاجة إليه، فكم من بخيل يمسك المال ويمرض فلا يتداوى، ويشتهي الشيء فيمنعه البخل، وكم بين من بخل على نفسه مع الحاجة، وبين من يؤثر على نفسه مع الحاجة.

والحال أن الشح خلق ذميم نهى عنه القرآن وأمر بضده، وبين عاقبة أصحابه فقال: { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير} (آل عمران:180)، وذم أهل الكفر ووصفهم به: {أشحة على الخير} (الأحزاب:19)، وفي المقابل: مدح أهل الإيثار والجود فقال: { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} (الحشر:9).

وقد حذر منه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من الشح والبخل في أكثر من مناسبة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:(خلق الله الجنة لبنة من فضة، ولبنة من ذهب، وملاطها المسك، فلما انتهى من بنائها قال لها الله عز وجل: تكلمي. فقالت الجنة : قد أفلح المؤمنون، فقال الله عز وجل : وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل) رواه البخاري.

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم. حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم) رواه مسلم.

وأهل البخل محرومون من دخول الجنة مع الأولين، فقد قال -صلى الله عليه وسلم- : (لا يدخل الجنة بخيل) رواه الترمذي، وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام: (خصلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق) رواه الترمذي كذلك، وكثيرا ما كان خير البرية -صلى الله عليه وسلم- يدعوا قائلا : (اللهم إني أعوذ بك العجز والكسل، والجبن والهرم والبخل) رواه مسلم.

ونقول كذلك: إن حب الذات وإيثار النفس أمر من صميم الطباع الإنسانية التي تدل على ضعفها، فإذا زادت هذه الصفة عن حدها وسيطرت على صاحبها، تحول الأمر من محبة الخير للنفس إلى إيصاد تام لأبوابه عن الآخرين، وانكفاء مذموم على الذات، وتركيز على الجمع دون الإنفاق، وعلى الأخذ دون العطاء، والتكسب دون التفضل، فهو طغيان يؤدي بصاحبه إلى تضييع الحقوق، والاستطالة على الآخرين، والأنانية المفرطة المقيتة.

ولعل من يستعرض الواقع يجد أن صور التكافل الاجتماعي كانت في الماضي القريب -فضلا عن ذلك البعيد- أكثر كثافة وأشد ظهورا، تراه بين الجيران في صورة تلبية حاجات أهل البيت عند سفر المعيل لتلك الأسرة، وتعاهد الجار لجاره ومبادلته له بأنواع الطعام تطبيقا للأدب النبوي في ذلك، وتراه عند التاجر في صورة إنظار المعسرين، وعدم استغلال مواسم الجفاف في احتكار البضاعة لأجل رفع أسعارها، والرضا بالمقسوم من الرزق، فضلا عن بذل البضائع دون مقابل للفقراء والمساكين احتسابا، وتراه في صور أخرى يعجز الإنسان عن استقصائها، واللسان عن سردها.

أما اليوم فمن المحزن قوله أن الشح والبخل قد تناسب طرديا مع البسطة الحاصلة في الرزق والسعة في المال، والطفرة المعيشية المعاصرة، فزادت الرفاهية وزادت معها حظوظ النفس وأثرتها وضنها به، وتعلقها بحقيقته، وبعد أن كان الدرهم يسبق الألف درهم، صارت الدراهم تجد صعوبة في النفوذ من النطاقات (الجمركية) التي يفرضها أرباب الأموال على أموالهم، لكأنها تخرج من عنق زجاجة ضيق بقدر ضيق نفوس أصحابها، فنعوذ بالله من الخذلان.

وعلى المسلم أن يتذكر أن الله سبحانه وتعالى غني عنا وعن أموالنا، وأن نفع الصدقات والأعمال عائد إلى أصحابها، ومع هذا فهو حميد على ما يأمرنا به من الأوامر الحميدة والخصال السديدة، والامتثال لها هو قوت القلوب، وحياة النفوس، ونعيم الأرواح، ذلك هو ما يريده الله سبحانه لعباده، أما الشيطان فله مراد آخر: { الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم} (البقرة:268).

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة