من أشراط الساعة .. كثرة المطر وقلة النبات

0 1965

الماء هو عصب الحياة، والمطر هو مستخرج أقوات الناس من الأرض، ولولا الأمطار ما نبتت الأزهار، وأزهرت الرياض، واخضرت الحقول، وجرت الأنهار، من بعد يأس وقنوط : {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد} (الشورى:28).

وإن مثل هذا المشهد المتكرر يوقفنا على ملمح من ملامح الضعف البشري، والافتقار إلى الرحمة الإلهية، فإن حاجتهم إلى المطر لها مكان الصدارة، فقوتهم الزراعي وثروتهم الحيوانية معتمدة على هذه الأمطار، وحاجتهم إلى الماء في الشرب والاستخدامات اليومية لا تعدلها حاجة، وتأخر نزول المطر يعني غبرة وجفافا يثقل كواهل النفوس ويكدر عليهم عيشهم، حتى إذا نزل المطر انقلب اليأس فرحا، والحزن سعادة، والكدر انبساطا، والجفاف ارتواء، فتنبت الأرض وتزهر الرياض، وتعود الحياة، ولا يعرف هذا الاستبشار على حقيقته كما يعرفه الذين يعيشون مباشرة على المطر، وتقوم حياتهم على ماء السماء.

لكننا هنا أمام ظاهرة انقلبت فيها الموازين، وتبدلت السنن الإلهية واختلف نسقها وقانونها، وتخلف الأثر عن المؤثر، حالة ينزل فيها المطر، وتفتح السماء أبوابها بالماء الكثير المتتابع، لكن هذه الأمطار بلا فائدة حقيقية تعود على الخليقة، فهو بين أن يغور في الأرض، أو يفيض على سطحها وأديمها، ويهلك الحرث والنسل، فلا كلأ ولا نبات، ولا زروع ولا ثمار.

وللوقوف أمام هذا الشرط من أشراط الساعة، حيث كان لهذا الاضطراب في قلة البركة والفائدة من الأمطار النازلة علامة تضاف إلى جملة الإخبارات النبوية الغيبية، نعود إلى سنة المصطفى –صلى الله عليه وسلم- لنستجلي الحقيقة، لنجد في هذا السياق حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: (لا تقوم الساعة حتى يمطر الناس مطرا لا تكن منه بيوت المدر، ولا تكن منه إلا بيوت الشعر) رواه أحمد.

ومعنى "تكن" كما يقول أهل اللغة: الوقاية والستر، ومنه قول الله تعالى: { وجعل لكم من الجبال أكنانا} (النحل:81)، أي: أن ذلك المطر من شدته وكثرته ينزل من بيوت المدر، ولا تمنع بيوت المدر من نزوله، ولا ينزل من بيوت الشعر.

على أن ذلك المطر بالرغم من ذلك، ليس له أثر نافع يحقق الحاجة البشرية الملحة إلى نعمة الغيث، بل هو وبال عليها، وقد حدث أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تقوم الساعة حتى يمطر الناس مطرا عاما، ولا تنبت الأرض شيئا) رواه أحمد في مسنده.

وتلك هي المجاعة على وجه الحقيقة كما يصورها الشرع، ويستشهد لها بحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ليست السنة بأن لا تمطروا، ولكن السنة أن تمطروا وتمطروا، ولا تنبت الأرض شيئا) رواه مسلم، فهم يمطرون المرة بعد المرة، والكرة تلو الأخرى، دون فائدة تذكر.

والمراد بالسنة هنا القحط، وعلى هذا الإطلاق اللغوي جاء قوله تعالى: {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين} (الأعراف:130)، يقول القاضي عياض: "المعنى أن القحط الشديد ليس بأن لا يمطر، بل بأن يمطر ولا ينبت; وذلك لأن حصول الشدة بعد توقع الرخاء، وظهور مخائله وأسبابه أفظع مما إذا كان اليأس حاصلا من أول الأمر، والنفس مترقبة لحدوثها".

إذن فالأمطار التي تحدث عنها الحديث أمطار نقمة لا رحمة؛ فإن الله عز وجل عندما سمى المطر رحمة فقال: {ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته} (النمل:63)، جعل من لوازم هذه الرحمة ظهور آثارها: {فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها} (الروم: 50)، {والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها} (فاطر: 9)، والمطر المبارك هو ما كان صيبا نافعا كما صح عن المصطفى –صلى الله عليه وسلم-، قال الله تعالى: {ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد} (ق:9).

ولهذا الشرط من أشراط الساعة ملمحان نجدهما في الواقع المعاصر، أحدها: أن المحاصيل الزراعية قلت بالجملة، وانعكاس ذلك على الارتفاع في أسعار المواد الغذائية، بل إن الحديث عن الأزمة الغذائية ينمو ويتصاعد في أروقة المؤسسات والهيئات العالمية، وباتت هذه القضية تشكل محورا مهما لعدد ليس باليسير من الندوات والمؤتمرات الإقليمية والدولية.

والملمح الثاني: تفاقم مشكلة السيول والأمطار في الكثير من الأصقاع والبلدان، وشكوى الناس من الفيضانات المدمرة التي لا تبقي على شيء، وتكتسح كل ما يمر أمامها من مظاهر عمرانية أو أراض زراعية، فهي سيول نشأت عن أمطار غزيرة، لكنها أمطار لا تنبت كلأ ولا تخرج زرعا يأكل منه الناس ويستفيدون منه:

              السيل يقطع ما يلقاه من شجر    بين الجبال ومنه الأرض تنفطر 
              حتى يوافي عباب البحر تنظره      قد اضمحل فلا يبقى له أثر

إن علينا أن نستحضر أن العباد لا يستطيعون الصبر عن نزول المطر، لارتباط حياتهم ومصالحهم به، ولا يطيقون نزوله على نحو يدمر ممتلكاتهم ولا يحقق لهم مصالحهم، والماء له وجهان متباينان، وهو دائر بين الرحمة والعقوبة، وذلك يظهر افتقار الخلق إلى الخالق وحاجتهم إليه، ويبرز جمال القول النبوي حين نزول المطر: (اللهم صيبا نافعا) رواه البخاري.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة