من دروس أُحُد : { قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ }

0 1885

بينما كان الجيش الإسلامي يسجل في أحد نصرا عظيما على كفار قريش لم يكن أقل من النصر الذي اكتسبه يوم بدر، وقع من الرماة في الجيش خطأ قلب وضع المعركة، وأدى إلى إلحاق الخسائر الكبيرة بالمسلمين، وحول النصر إلى هزيمة استفاد منها الصحابة والمسلمون من بعدهم إلى يومنا هذا .. ومن ثم فقد كانت غزوة أحد بما فيها من أحداث وجراح مؤلمة، تربية للأمة في كل زمان ومكان، لما فيها من دروس كثيرة، تتوارثها الأجيال تلو الأجيال، ومنها أثر المعصية ومخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم في إلحاق الفشل والهزيمة بالمسلمين .

لقد جرت سنة الله في رسله وأتباعهم أن تكون الحرب سجالا بينهم وبين أعدائهم، ثم تكون لهم العاقبة في النهاية، ولئن انتفش الباطل يوما وكان له صولات وجولات، إلا أن العاقبة للمتقين، فدولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة، وقد تحدث القرآن الكريم عن محنة أحد، مصورا ما حدث فيها في سورة آل عمران، قال الله تعالى: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير} (آل عمران: 165).

بداية المعركة :

في يوم السبت الموافق السابع من شوال بعد غزوة بدر بعام تقريبا وصل الجيش الإسلامي إلى جبل أحد وعسكر هناك، واختار النبي صلى الله عليه وسلم أرض المعركة، وقام بتقسيم أفراد الجيش إلى ثلاث كتائب: كتيبة المهاجرين بقيادة مصعب بن عمير رضي الله عنه، وكتيبة الأوس بقيادة أسيد بن حضير رضي الله عنه، وكتيبة الخزرج يحمل لواءها الحباب بن المنذر رضي الله عنه، ثم عرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه فاختار منهم خمسين راميا، وأمر عليهم عبد الله بن جبير رضي الله عنه، وجعلهم على جبل يقال له " عينين " يقابل جبل أحد، وقال لعبد الله بن جبير رضي الله عنه قائد الرماة ـ كما ذكر ذلك البيهقي قي الدلائل وابن إسحاق في السيرة النبوية - : (انضح عنا الخيل بالنبل، لا يأتوننا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك)، ثم قال للرماة: (إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطأناهم، فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم) رواه البخاري.

وبدأت المعركة واشتد القتال، وبدأت ملامح النصر تظهر من خلال المواقف البطولية التي أظهرها المسلمون واستبسالهم في القتال، ومع تقهقر قريش وفرارهم أول الأمر ظن الرماة انتهاء المعركة، ورأوا ما خلفته من غنائم كثيرة فتحركت نفوسهم طمعا في نيل نصيبهم منها، فتنادوا قائلين: " الغنيمة أيها القوم، الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ " ، فقال أميرهم عبد الله بن جبير : "أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم "، فلم يلتفتوا إليه وقالوا: " والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة "، فغادروا أماكنهم متجهين صوب الوادي، ووجد خالد بن الوليد ـ ولم يكن أسلم بعد ـ في ذلك فرصة سانحة كي يدير دفة المعركة لصالح المشركين، فانطلق مع مجموعة من المشركين ليلتفوا حول المسلمين ويحيطوا بهم من كلا الطرفين، ففوجئ المسلمون بمحاصرتهم، واستحر القتل فيهم، وفر منهم من فر، وتساقط الكثير منهم قتلى وجرحى، وبينما كان المسلمون في محنتهم تلك، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يواجه الموت، فقد خلص إليه المشركون فكسروا أنفه وسنه، وشجوا وجهه الشريف حتى سالت منه الدماء، فجعل يمسح الدم عنه ويقول: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم ؟)، وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمور لن تعود إلى نصابها إلا بكسر هذا الطوق المحكم الذي ضربه المشركون، فصعد إلى الجبل ومعه ثلة من خيرة أصحابه الذين استبسلوا في الدفاع عنه، وعاد المسلمون إلى الثبات، ويئس المشركون من إنهاء المعركة بنصر حاسم فتوقفوا، رغم أن المسلمين وصلوا إلى حالة كبيرة من التعب والألم لما أصابهم، وعلم الله ما بعباده من الهم والغم، والخوف والألم، فأنزل عليهم نعاسا ناموا فيه وقتا يسيرا، ثم أفاقوا وقد زالت عنهم آلامهم، وفي ذلك يقول الله عز وجل: {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم} (آل عمران: 154) .

وانكشفت المعركة عن مقتل سبعين صحابيا وجرح العديد منهم، وانصرف المشركون مكتفين بالذي حققوه، ولحقت الهزيمة بالمسلمين نتيجة مخالفتهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله في شأن هذه الغزوة نحوا من خمسين آية في سورة آل عمران، واصفا أحداثها ، ومبينا أسباب الهزيمة والتي كان من أهم أسبابها المعصية ومخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن خلال غزوة أحد ظهر لنا أن مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم والمعاصي من أهم أسباب الهزيمة وتخلف النصر عن الأمة، فبسبب معصية واحدة خالف فيها الرماة أمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ذهب النصر بعد أن انعقدت أسبابه، ولاحت بوادره، فالمسلمون انتصروا في بداية المعركة حينما امتثلوا أوامر النبي صلى الله عليه وسلم، بينما انهزموا حينما خالفوا أمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي ذلك يقول الله عز وجل: {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين} (آل عمران:152)، ومن ثم ينبغي أن يعلم أنه وإن كان إعداد العدة والعدد مطلبا شرعيا، إلا أن النصر والهزيمة لا يتوقفان عليهما، فبالمعاصي تدور الدوائر، فقد فاضت أرواح في تلك الغزوة بسبب معصية، ومحيت حضارات كثيرة بسبب الذنوب والمعاصي ..

إن غزوة أحد معركة اجتمع فيها النصر والهزيمة، ومع ما فيها من آلام وجراح، وشهداء وجرحى، إلا أنها كانت درسا عمليا للصحابة الكرام، وإن كان الثمن غاليا إلا أنه باق على مر العصور، يتعلم منه المسلمون شؤم وعقوبة المعصية، فإذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فلا خيرة لنا، قال الله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا} (الأحزاب: 36).

فمخالفة أوامر النبي صلى الله عليه وسلم سبب كل عناء، وطريق كل شقاء، وهي من أسباب الهزيمة في الحروب، ومن ثم ينبغي الحذر منها والبعد عنها، قال الله تعالى: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير} (آل عمران:165)، وقال تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير} (الشورى:30) .

فما أحرى أمتنا الإسلامية أفرادا ومجتمعات، أن تقف عند هذه الغزوة، وتستفيد من دروسها وعبرها في واقعنا المعاصر ..

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة