الدخول على الله.. بالله!!

3 683

لا يمكن للعبد أن يعيش بعيدا عن ربه، وإذا بعد العبد عن الرب استوحش قلبه، وقل إيمانه، وضاق صدره، وربما ضاع دينه.. والمؤمن الحق يبحث في سبل القرب ويفتش عن أبواب الدخول على الله تبارك وتعالى، ليلج إلى محبوبه من أوسع الأبواب وأقرب الطرق.
وليس هناك طريق أقرب للوصول إلى الله ولا باب أوسع للدخول عليه من أن تصل إليه به، وتتوسل إليه بفضله، وتستعين به عليه، وتهرب منه إليه، وتستفتح به عليه.

في كتابه الرائق الرائع صيد الخاطر.. وفي فصل بعنوان (التوسل بالله إلى الله) يقول:
"بلغني عن بعض الكرماء أن رجلا سأله فقال: أنت الذي أحسنت إلي يوم كذا وكذا، فقال: مرحبا بمن يتوسل إلينا بنا، ثم قضى حاجته. فأخذت من ذلك إشارة، فناجيت بها فقلت: أنت الذي هديته (يعني نفسه) من زمن الطفولة، وحفظته من الضلال، وعصمته عن كثير من الذنوب، وألهمته طلب العلم لا بفهم  لموضع الصغر، ولا بحب والده (لموت والده)، ورزقته فهما لتفقهه وتصنيفه، وهيأت له أسباب جمعه، وقمت برزقه من غير تعب منه، ولا ذل للخلق بالسؤال، وحاميت عنه الأعداء، فلم يقصده جبار، وجمعت له ما لم تجمع لأكثر الخلق من فنون العلم، التي لا تكاد تجتمع في شخص، وأضفت إليها تعلق القلب. بمعرفتك ومحبتك، وحسن العبارة ولطفها في الدلالة عليك، ووضعت له في القلوب القبول حتى إن الخلق يقبلون عليه ويقبلون ما يقوله، ولا يشكون فيه، ويشتاقون إلى كلامه، ولا يدركهم الملل منه، وصنته بالعزلة عن مخاطبة من لا يصلح، وآنسته في خلوته بالعلم تارة، وبمناجاتك أخرى. وإن ذهبت أعد لم أقدر على إحصاء عشير العشير {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}. فيا محسنا إلي قبل أن أطلب، لا تخيب أملي فيك وأنا أطلب. فبإنعامك المتقدم أتوسل إليك.

وهذا في نظري من أبدع ما كتب ابن الجوزي، أن تسأل الله به، فتدخل به عليه، وتستشفع به عنده، وتتوسل به إليه، وتستجير به منه.. وهو عين ما طلبه الله منا ودلنا عليه لنا فقال في الحديث القدسي الجليل: [يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته؛ فاستهدوني أهدكم. ياعبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته؛ فاستطعموني أطعمكم. ياعبادي! كلكم عار إلا من كسوته؛ فاستكسوني أكسكم. يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا؛ فاستغفروني أغفر لكم].

وكذا النبي صلى الله عليه وسلم دل أمته على هذا الطريق وطرق أمامهم هذا الباب في حديثه الشريف: [اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك].
فليس ثم شيء يعيذنا من سخط الله إلا رضاه هو نفسه، ولا يحمي من عقوبته إلا عفوه، ولن تجد من يجيرك من الله سبحانه إلا هو؛ فلا يجير عليه أحد من خلقه، فهو الذي يجير ولا يجار عليه، كما أنه لا يبلغ تمام الثناء عليه أحد من عباده فهم أعجز من أن يحيطوا بذلك.. فلم يعد أمامهم سواه ولم يبق لهم غيره.

محارب بن دثار:
وقد أخذ السلف ذلك فعملوا به كما ورد عن عنبسة بن الأزهر، قال: كان محارب بن دثار قاضي أهل الكوفة قريب الجوار، فربما سمعته في بعض الليل يقول ويرفع صوته: "أنا الصغير الذي ربيته فلك الحمد، وأنا الضعيف الذي قويته فلك الحمد، وأنا الفقير الذي أغنيته فلك الحمد، وأنا الغريب الذي وصيته فلك الحمد، وأنا الصعلوك الذي مولته فلك الحمد، وأنا العزب الذي زوجته فلك الحمد، وأنا الساغب الذي أشبعته فلك الحمد، وأنا العاري الذي كسوته فلك الحمد، وأنا المسافر الذي صاحبته فلك الحمد، وأنا الغائب الذي أديته فلك الحمد، وأنا الراجل الذي حملته فلك الحمد، وأنا المريض الذي شفيته فلك الحمد، وأنا الداعي الذي أجبته فلك الحمد, ربنا ولك الحمد ربنا حمدا لك على كل نعمة".

نونية القحطاني:
وما أجمل ما قاله القحطاني في نونيته:
أنت الـذي صورتنـي وخلقتنـي .. .. وهــديـتــنـي لـشــرائـع الإيمـان
أنت الــذي علــمتني ورحمتني .. .. وجعلت صـدري واعـي القـرآن
أنت الذي أطـعمــتني وسقـيتني .. .. من غـيـر كســـب يـد ولا دكـان
وجبرتني وسترتني ونصرتني .. .. وغمرتني بالفــضـل والإحــسـان
أنت الــذي آويــتني وحـبوتنـي .. .. وهديتنـي مـن حــيـرة الخـــذلان
وزرعت لي بين القلوب مودة .. .. والعطف منـك برحــمـة وحــنـان
ونشرت لي في العالمين محاسنا.. .. وسترت عن أبصارهم عصياني
وجعلت ذكري في البرية شائعـا.. .. حتى جعــلت جميعهـم إخــوانـي
والله لو علــموا قــبـيح سريرتي .. .. لأبى الســلام علـي مـن يلـقانـي
ولأعرضوا عني وملوا صحبتي .. .. ولبــؤت بعـــد كــرامـة بهــوان
لكن سترت معــايبي ومثـالبي .. .. وحلمت عن سقطي وعن طغيانـي
فلك المحــامد والمــدائح كلـــها .. .. بخواطـري وجوارحـي ولسانـي

ونختم بهذه الأبيات الجميلة :
يا مـنتهى الآمـــال أنت كفــلتني وحـفظـتني
وعــدا الزمان عـلي كـي يجتاحـني فمنعتني
فانقـــاد لـي متــخشعا لمــا رآك نــصــرتني
وكسوتني ثوب الغني ومن المغالب صنـتني
فــإذا سـكـت بـدأتــني وإذا ســألـت أجـبتـني
فإذا شـكرتـك زدتـني فمـنحـتني وبهــرتــني
أو إن أجــد بالمــال فالأمــوال أنت أفـدتـني 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة