اضبط ساعتك

4 1069

في السلوك اليومي نقوم بأفعال كثيرة بطريقة آلية ودون تفكير: المشي الكتابة الأكل اللبس الجمع الطرح التحدث القيادة.. بعض العادات من شدة لا إراديتها لو فكرت فيها حدثت لك الحيرة. لو فكرت أي رجليك تقدم في المشي؟ مع أن السنة حددت حالات يشرع فيها تقديم اليمين؛ كالدخول إلى المسجد، وأخرى نقيضها كالخروج منه.
عندما تنام أين تضع يديك؟ على صدرك أم على السرير أم على جنبك؟ الحفظ هو عادة حيث إن كل مقطع أو آية يكون ممهدا عند قراءته للذي بعده دون تفكير، والتكرار يرسخ ذلك، ولو بقي القارئ يتأمل ويفكر فيما بعد الآية أو المقطع لتردد أو توقف أو ارتبك. حياتنا الإنسانية هي صرح مشيد من العادات العاطفية والفكرية والسلوكية. العادة قانون غير مكتوب يسلم له الجميع وهي أقوى من القانون. 

الملبس، الغترة، الطاقية، العقال، العباءة.. يوجد مجتمعات بلا قوانين؛ كالمجتمعات البدائية، ولكن لا يوجد مجتمعات بلا عادات ولا حتى أفراد حتى الحيوانات وهي تتحرك بالغرائز تكتسب بعض العادات، ولذلك عندما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية ، حتى كانوا ببعض الطريق... وسار النبى - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بالثنية التى يهبط عليهم منها، بركت به راحلته. فقال الناس حل حل. فألحت، فقالوا خلأت القصواء، خلأت القصواء. فقال النبى - صلى الله عليه وسلم – "ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال والذى نفسى بيده لا يسألونى خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها" ( البخاري).
وقال تعالى: {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب} (سورة المائدة). فالكلاب تعلم على الصيد وتندفع إذا دفعت وتنزجر إذا زجرت، وكذلك تدرب الكلاب على كشف المخدرات والمتفجرات بضرب من الاحتيال على طبيعتها.. وقد رأيت من هذا عجبا في إحدى دوائر الجمارك، ويمكن مشاهدة مثل ذلك في مقاطع اليوتيوب.

مع الوقت يمكن أن نتعود على المناخ الحار أو البارد، وعلى تعب العمل الذي نمارسه لفترة طويلة، وعلى تهكم زملائنا بنا، وتنشأ لدينا مهارات من تكرارنا لبعض الأعمال إلى حد الإتقان؛ كحذق أصحاب الحرف بنشاطاتهم، وسرعة الطباعة، وإبداع قيادة الدراجة أو السيارة أو ممارسة الرياضة. تتصل العادات بالضرورات الحيوية؛ كالأكل، والشرب، والنوم، والزواج، وأنماط العيش، واحترام الذات.. فالعادات هي الحروف التفصيلية لتلك العناوين المجملة. العادة: هي ذلك الطريق المعبد الذي تم رسمه بكثرة مرور السيارات أو وطء الأقدام عليه، فيظل الإنسان يسلكه حتى يكتشف طريقا أقصر وأفضل.
تكرار الفعل هو تأثير نفسي وتأثير عضوي فسيولوجي. في كل مرة تمارس فيها عادة حسنة؛ كتقبيل يدالوالد أو رأسه، أو سيئة كالتدخين.. تحدث سلسلة من النبضات الكهربائية في المخ، وكلما تكرر الفعل أصبحت أسهل حتى تكون في نهاية المطاف تلقائية. لو لم تكن العادة موجودة لكان لبس الثوب أو خلعه يستغرق يوما كاملا، ولكان الإنسان عاجزا عن التكيف مع المواقف الجديدة، ومن الملاحظ أن لاعب كرة القدم يمكنه ممارسة لعب كرة السلة أو كرة اليد.. أسرع من غيره. 
 
العادة أقوى من القانون لأنها بدافع ذاتي، الاعتياد على الإسراف في المناسبات؛ حيث يجد المرء نفسه مضطرا لممارسة العادة خوفا من النقد أو حفاظا على الوجاهة، وقد ارتبط في ذهنه حصول بهجة الفرح بإحراق المزيد من المال. العادات تبدو أحيانا وكأنها أعضاء في جسد الإنسان.
(ديكارت) شبه العادة بالظواهر الفيزيائية، طي الثوب مثلا لا بد أن يترك أثرا فيه كالذي يسمى بـ(المرزام) في الغترة، وكذلك طي الورقة أو الفراش. وأقرب من ذلك أن العادة الواعية تشبه تركيب الساعة على توقيت ما ثم سؤالها عن الوقت كلما احتاج إلى ذلك والاعتماد عليها.. فهكذا هي العادة.. شيء نصنعه ثم يصنعنا! العادة تبدأ بسيطة ثم تتسلل إلى الأعماق وتختلط بالوجدان وتصبح جزءا من التكوين.

قد تبدأ عادة الشيشة أو التدخين أو السهر أو المخدرات دون ضرر ظاهر ثم ترسخ وتصبح مثل العقدة في الحبل. المورفين قد يستخدم كمسكن للآلام ولكن حين يتكرر حقنه يصبح المرء عاجزا عن الخلاص حتى لو لم يكن معانيا من الآلام، وإذا حل موعد الجرعة كان في حالة يرثى لها حيث يطرأ تغيير كيميائي على خلايا الدم في الجسم. ولذلك يقال: بادر باقتلاع الحشائش الضارة من حديقتك وإلا أفسدت عليك الحديقة كلها. قد تبدأ السرقة بسبب الحاجة ثم تصبح عادة حتى مع الغنى ويجد السارق فيها متعة كمتعة الصياد حين يطلق رصاصة من بندقيته فيفرح بإصابة الطائر مع أنه يمتلك في ثلاجته لحوم الطيور بأنواعها.

العادة إذا استسلمت لها صارت سيدا يقودك بقوة إلى حيث لا تريد. العادة طبيعة ثانية؛ كما يقول أرسطو، وهي طبيعة ثابتة أيضا، ولذا يقولون: (غير جبل ولا تغير طبع)؛ مع أن هذا غير مسلم، وتغيير العادات ممكن ولكن بجهد وإصرار بلا يأس.

العادات السلبية تشجع الآلام، وتحرم من الخير. قد يفقد المرء مصداقيته مع الناس بسبب عادة رديئة لا تجد قبولا لديهم. أو موقف لم يفهموه. قد يصفونه بالنفاق وهو مؤمن لديه بعض التقصير. أو يفقد وظيفته. فرق بين نزوة مفاجئة وعابرة وبين عادة مستقرة دائمة. مع أن النزوة قد تتطور إلى عادة. العادة السيئة تأخذ منا أكثر مما تعطينا.. هذا لو كانت تعطينا فعلا! قد يستمتع المرء بالعادة السرية، وهي مذمومة، وشر منها الزنى والعلاقات المحرمة. وقد يبتهج أثناء الفعل لكنه يحرم من الأشواق الروحية والعقلية وتنقص لديه متعة الحياة.

حين يدرك الإنسان أن من كمال شخصيته التحلي بفضائل المحبة، والوفاء، والرحمة، والتسامح، والعدل، والتفكير الموضوعي.. ثم يعزز حظوظها في نفسه، ويبدأ بممارستها وحمل النفس عليها فإنها تصبح عادة تصعب مخالفتها مهما كثرت التضحيات. من تعود على الصواب يصعب عليه فعل الخطأ، ومن جرت سليقته العربية على الفصاحة لا يمكنه لسانه من اللحن. حين طلب من لاعب سلة ماهر تمثيل مشهد يرمي فيه الكرة فيخطئ لغرض إعلاني أخفق في ذلك وعجز؛ لأنه اعتاد على الصواب. الصداقة عادة؛ اجعل صداقاتك من البسطاء والضعفاء والعاديين حتى تألفهم وتركن إليهم، وتتعود على النظر إلى من هو دونك في الدنيا وتنأى بنفسك عن الكبر والتعاظم، وبذلك تحبهم ويحبونك، وتعتاد النفور من مجالس الكبراء والمتكبرين: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين} ( سورة الأنعام)، {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا} ( سورة الكهف).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

د. سلمان بن فهد العودة

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة