الإحسان عبادة الأبرار

3 2046

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فإن الإحسان مشتق من الحسن الذي هو الجمال والبهاء لكل ما يصدر من العبد من خطرات ونبرات وتصرفات، وهو أعلى مقامات الرفعة الإنسانية ، والمفتاح السحري لكل أزماتها وجسر سعادتها الأبدية، وكفى الإحسان شرفا أن البشرية جمعاء اتفقت على حبه ومدحه وأجمعت على كره ضده من كافة صنوف الإساءة، ولذلك أولى الإسلام الإحسان عناية بالغة وجعله أسمى هدف تصبو إليه نفوس العابدين، وهو طريق الوصول لمحبة الله تعالى ومعيته ورحمته، بل ورؤيته يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، في جنة الخلد، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

من أبلغ الأقوال في الإحسان قول من أوتي جوامع الكلم – صلى الله عليه وسلم-: أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك (البخاري ومسلم).

ففي هذه الكلمات النبوية الجامعة من مقتضيات المراقبة والخشية والإنابة والإتقان والاتباع وصفاء السريرة .. ما فيه صلاح الدنيا والآخرة. فبين صلى الله عليه وسلم أن الإحسان على مرتبتين متفاوتتين :

(أعلاهما) عبادة الله كأنك تراه، وهذا مقام المشاهدة، وهو أن يعمل العبد على مقتضى مشاهدته لله تعالى بقلبه حيث يتنور القلب بالإيمان وتنفذ البصيرة في العرفان حتى يصير الغيب كالعيان، وهذا هو حقيقة مقام الإحسان. ولذلك لما خطب عروة إلى ابن عمر ابنته وهما في الطواف لم يجبه بشيء، ثم رآه بعد ذلك فاعتذر إليه، وقال: كنا في الطواف نتخايل الله بين أعيننا.(الحلية، أبو نعيم).

الثاني: مقام المراقبة وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه واطلاعه عليه وقربه منه، فإذا استحضر العبد هذا في عمله وعمل عليه فهو مخلص لله تعالى؛ لأن استحضاره ذلك في عمله يمنعه من الالتفات إلى غير الله تعالى وإرادته بالعمل، قال الحارث المحاسبي: أوائل المراقبة علم القلب بقرب الرب، وقال بعض السلف: من عمل لله على المشاهدة فهو عارف، ومن عمل على مشاهدة الله إياه فهو مخلص.

ويتفاوت أهل هذين المقامين بحسب نفوذ البصائر ؛ لذلك قال النووي –رحمه الله-: (وهذا القدر من الحديث أصل عظيم من أصول الدين، وقاعدة مهمة من قواعد المسلمين، وهو عمدة الصديقين، وبغية السالكين، وكنز العارفين، ودأب الصالحين).

وقالوا أيضا في الإحسان: فعل الخيرات على أكمل وجه. تحسين الظاهر والباطن. الإتيان بغاية ما يمكن من تحسين العمل المأمور به، ولا يترك شيئا مما أمر به. امتلاء القلب بحقيقة الألوهية كأنه يشاهد الله عيانا. مراعاة الخشوع والخضوع.

وبالجملة فالإحسان هو الذي خلقنا من أجله، قال تعالى: {الذي خلق الموت والحياة} ثم بين الحكمة فقال: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} (الملك:2).

والإحسان ذروة الأعمال، وهو أن تقدم الفعل من غير عوض سابق، بل يساء إليك ولا يسعك إلا أن تقدم الإحسان، كما فعل يوسف الصديق عليه السلام {يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون} (يوسف: 46-48)فعاملهم بالإحسان فلم يعبر لهم الرؤيا فقط بل أعطاهم الحل معه {فما حصدتم فذروه في سنبله}.

بل إن الذي يستلفت النظر في قصة يوسف عليه السلام كثرة تكرار صفة الإحسان، فكان محسنا مع ربه ومع الناس –وهما متلازمان- فقد سمى الله قصته {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هـذا القرآن} (يوسف:3)أي من أحسنه.

ورتب على الإحسان إيتاءه الحكم والعلم مع الشباب {ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين} (يوسف:22).

ووصفه السجناء بذلك {نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين} (يوسف:36).

وبه مكنه الله تعالى في الأرض {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين} (يوسف:56).

وقال له إخوته وهم لا يعرفونه {قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين} (يوسف:78).

وقال عن نفسه وأخيه {قال أنا يوسف وهـذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} (يوسف:90).

ثم أثنى على ربه بإحسانه إليه {وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم} (يوسف:100).

فلم يذهب إحسانه سدى، فكل إحسان يفعله العبد حتى فيمن لا يستحقون لابد أن يكافئه عليه الله تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} (الرحمن:60)فاصنع المعروف في أهله وفي غير أهله، فإن صادف أهله فهو أهله، وإن لم يصادف أهله فأنت أهله.

والإحسان خير مكانة يتبوأها العبد لأنه إن أساء وسعه بعده الإيمان ثم الإسلام، أما من يعيشون على الحد الأدنى للإسلام فهو مع النقص مهدد بكفر الاعتقاد أو كفر النعمة.

قال ابن تيمية: (جعل النبي صلى الله عليه وسلم الدين ثلاث درجات: أعلاها الإحسان، وأوسطها الإيمان، ويليه الإسلام. فكل محسن مؤمن، وكل مؤمن مسلم، وليس كل مؤمن محسنا، ولا كل مسلم مؤمنا ..)، ثم قال: (وأما الإحسان فهو أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإيمان، والإيمان أعم من جهة نفسه، وأخص من جهة أصحابه من الإسلام، فالإحسان يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام، والمحسنون أخص من المؤمنين، والمؤمنون أخص من المسلمين).

وخلق الإحسان يتسع ليشمل القول والعمل والعبادات والمعاملات .. فهو إكسير الحياة الذي يحيلها طيبة متآلفة، لذلك جعل الله تعالى رحمته ومحبته جائزة المحسنين {والله يحب المحسنين} (آل عمران:134){إن رحمت الله قريب من المحسنين} (الأعراف:56).

كما أن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها، ولذلك قال –صلى الله عليه وسلم-: اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن (الترمذي)
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم*** فطالما استعبد الإنسان إحسان

وأعظم ثمرات الإحسان قوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} (يونس:26)الحسنى: أي البالغة الحسن في كل شيء، من جهة الكمال والجمال، وهي الجنة، وقد ثبت عن النبي في صحيح مسلم تفسير الزيادة المذكورة في هذه الآية الكريمة بأنها النظر إلى وجه الله الكريم في الجنة، ولا يخفى ما بين هذا الجزاء وذلك الإحسان من المناسبة، فالمحسنون الذين عبدوا الله كأنهم يرونه، جزاهم على ذلك العمل النظر إليه عيانا في الآخرة {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}(الرحمن:60)وعكس هذا ما أخبر الله به عن الكفار في الآخرة بقوله: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} (المطففين:15) {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى}(النجم:31).

إن الإحسان هو الأمارة الدالة على الفوز والنجاة. فمن كان من أهل السعادة، عمل عمل المحسنين، ومن كان من أهل الشقاء عمل عمل المسيئين. فهو طريقك وهدفك ومحل كدك ونصبك .. روى الطبراني عن أبي سلمة عن معاذ –رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله أوصني. قال: اعبد الله كأنك تراه، واعدد نفسك في الموتى، واذكر الله عند كل حجر وعند كل شجر، وإذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة، السر بالسر والعلانية بالعلانية (حسن لغيره، الألباني).

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المحسنين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلىالله وسلم وبارك على عبده ورسوله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

د. خالد سعد النجار
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة