فمن رغب عن سنتي فليس مني

0 1773

من سعادة المسلم أن يرزقه الله اتباع سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فإن أحق ما اعتنى به المسلم العمل على اقتفاء سنته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتجسيدها في حياته ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وذلك لأن الغاية التي يسعى المسلم لأجلها إنما هي تحصيل الهداية التي توصله إلى دار السعادة، وقد قال الله ـ عز وجل ـ : { وإن تطيعوه تهتدوا }(النور: من الآية54)، وقال: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة }(الأحزاب: من الآية21)، وقال: { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب }(الحشر: 7) .
قال ابن كثير: " أي مهما أمركم به فافعلوه ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمركم بخير وإنما ينهى عن شر " .

وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: ( جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسألون عن عبادة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فلم أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟!، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب ( أعرض ) عن سنتي فليس مني ) رواه البخاري .
المتأمل لهذا الموقف النبوي مع هؤلاء الذين يسألون عن عبادته ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجد فيه فوائد كثيرة تستوجب تسليط الضوء عليها، للاستفادة منها في حياتنا، ومنها :

عظم أمر السنة الشريفة، ووجوب اتباعها، والرضى بها منهجا وسلوكا، حيث أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد قال على من رغب عنها: ( فليس مني ) .
قال ابن حجر: " المراد بالسنة الطريقة لا التي تقابل الفرض، ومعنى الرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره، والمراد من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني " .. إلى أن قال " ( وقوله فليس مني ): إن كانت الرغبة بضرب من التأويل يعذر صاحبه فيه، فمعنى ليس مني أي على طريقتي ولا يلزم أن يخرج عن الملة، وإن كان إعراضا وتنطعا يفضي إلى اعتقاد أرجحية عمله، فليس مني ليس على ملتي، لأن اعتقاد ذلك نوع من الكفر " .

ومنها : النقص في أمور الدين والعبادة ـ عن هدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مذموم، وكذلك الزيادة أيضا مذمومة، فهؤلاء النفر لما أرادوا أن يزيدوا في أمور العبادة بما لم يفعله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهاهم عن ذلك، وإذا زجر ونهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ  من أراد الزيادة في عبادة لها أصل في الشرع والدين، فكيف الحال بأناس ابتدعوا في دين الله ما ليس له أصل في الكتاب ولا في السنة، كابتداع أوراد وصلوات واحتفالات ليست على هدي النبوة في شيء، وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فهو رد ) رواه البخاري، ومعنى (رد ): أي مردود على صاحبه، لن يقبله الله ـ عز وجل ـ .
ويتفرع على ذلك فائدة أخرى وهي أن مدار الأمر ليس على كثرة العبادة والتشدد فيها، ولكن مدار الأمر على اتباع سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دون تفريط أو مغالاة، أو زيادة أو نقصان، فالسنة النبوية الشريفة أصلها التوازن والتوسط والاعتدال، وأن عدم التقيد والالتزام بها يؤدي إلى الضلال والابتداع .

وقد ظهر كذلك في هذا الموقف النبوي السياسة الحكيمة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الدعوة والتعليم والتربية، وذلك في معالجته للخطأ الذي كاد أن يقع فيه أولئك الصحابة الكرام، فقد ظنوا أن عبادة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانت قليلة لكونه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فلا يحتاج بعدئذ إلى مزيد من العبادة، أما هم فليس الشأن فيهم كذلك، ولذا ينبغي عليهم أن يشددوا على أنفسهم، ويشمروا عن ساعد الجد في العبادة والطاعة، ولو كان ذلك على حساب مجاوزة الهدي النبوي، اجتهادا منهم، رجاء أن يغفر الله لهم، فصحح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهم ولمن يأتي بعدهم هذا الخطأ، من خلال بيان أن هديه في العبادة التي حسبوها قليلة لم يكن نتيجة لغفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وإنما هو سنته المبنية على الوسطية التي يحبها الله ـ عز وجل ـ، دون تفريط أو مغالاة، وهذا من كمال خشيته لله، بخلاف المتشدد الغالي الذي ما يلبث أن يفضي به سلوكه المتشدد إلى إملال النفس القاطع لها عن أصل العبادة، وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين ) رواه أحمد، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (يا أيها الناس، خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دام وإن قل ) رواه البخاري . 
وعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( هلك المتنطعون ـ قالها ثلاثا ـ ) رواه مسلم .
قال النووي: " أي المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم "، وقال أيضا: " وهم المتشددون في غير موضع التشديد ".

السنة النبوية هي سفينة النجاة وبر الأمان من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، قال الزهري: " كان من مضى من علمائنا يقول: الاعتصام بالسنة نجاة " ، وقال مالك: " السنة سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق " .
وإن الأمة اليوم ـ أفرادا ومجتمعات ـ بأمس الحاجة إلى التمسك بسنة نبيها ـ صلى الله عليه وسلم ـ، لتسعد في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا }(الأحزاب:21)، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا، كتاب الله وسنة نبيه ) رواه الحاكم .

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة