مثلي ومثلكم ومثل الدنيا

0 760

عام آخر مضى من أعمارنا ، وبنفس السرعة التي مر بها العام الذي سبقه مر أيضا هذا العام .. فقربنا من الأجل عاما وباعد بيننا وبين الحياة سنة.

لا يستطيع أحد أن يمسك الشمس عن الدوران، ولا أن يوقف الأيام عن الاستمرار، ومعها تسير الدنيا إلى الانتهاء والأعمار إلى الانقضاء..

والحقيقة الكبرى التي تؤخذ من مرور الأيام والأعوام أن الدنيا ليست بدار بقاء وأننا لا محالة، شئنا أم أبينا، عنها منتقلون ولها مفارقون وعنها زائلون، إلى دار المقامة في نعيم أبدي أو عذاب سرمدي والسعيد اللبيب من أدرك هذا وسمع إلى نصيحة الأولين وتحذير الناصحين.. 

وإنما صاحب الدنيا كمثل راكب القطار ينقله من مكان إلى مكان، فمحطته الأولى مولده ومحطته الأخيرة موعده، فهو ينطلق من مولده إلى موعده وهو في كل يوم يبتعد عن الأول ويقترب من الثاني. كما قيل: "إنما أنت أيام فإذا مضى يوم مضى بعضك".

إنما الدنيا دار فناء ونحن من أول يوم ونحن مدبرون عنها مقبلون على آخرتنا فالويل كل الويل لمن شغلته دنياه عن آخرته فاشتغل بالفانية عن الباقية، وبالراحلة عن الآتية، وبدار اللهو واللعب والعمل عن دار الجد والحساب والجزاء.
كان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - يقول: "إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل".

وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: "إن الدنيا ليست بدار قرار، كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها منها الظعن (يعني الرحيل)، فكم من عامر عما قليل يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا - رحمكم الله - منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى".

وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة، ولا وطنا، فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على أحد أمرين: إما أن يكون كأنه غريب مقيم في بلد غربة، همه التزود للرجوع إلى وطنه، أو يكون كأنه مسافر غير مقيم البتة، بل هو ليله ونهاره، يسير إلى بلد الإقامة، فلهذا وصى النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن عمر أن يكون في الدنيا على أحد هذين الحالين. فقال له: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل".(جامع العلوم والحكم)

غير أن طول الأمل يغري الناس بالبقاء في الحياة وينسيهم ما هم مقبلون عليه ومنتقلون إليه؛ فيعمل أحدهم عمل من يعتقد أنه لن يموت ولن يفارق ما هو فيه من نعيم الدنيا وبهجتها، وينسيه أن هناك دارا أخرى ينبغي العمل لها والاستعداد لأهوالها وأحوالها.. وهو عين ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: [إنما مثلي ومثلكم ومثل الدنيا، كقوم سلكوا مفازة غبراء، حتى إذا لم يدروا ما سلكوا منها أكثر، أو ما بقي، أنفدوا الزاد، وحسروا الظهر، وبقوا بين ظهراني المفازة لا زاد ولا حمولة، فأيقنوا بالهلكة، فبينما هم كذلك، إذ خرج عليهم رجل في حلة يقطر رأسه، فقالوا: إن هذا قريب عهد بريف، وما جاءكم هذا إلا من قريب، فلما انتهى إليهم، قال: علام أنتم ؟ قالوا: على ما ترى، قال: أرأيتكم إن هديتكم إلى ماء رواء، ورياض خضر، ما تعملون ؟ قالوا: لا نعصيك شيئا، قال: عهودكم ومواثيقكم بالله، قال: فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بالله لا يعصونه شيئا، قال: فأوردهم ماء، ورياضا خضرا، فمكث فيهم ما شاء الله، ثم قال: يا هؤلاء الرحيل، قالوا: إلى أين ؟ قال: إلى ماء ليس كمائكم، وإلى رياض ليست كرياضكم، فقال جل القوم - وهم أكثرهم -: والله ما وجدنا هذا حتى ظننا أن لن نجده، وما نصنع بعيش خير من هذا ؟ وقالت طائفة - وهم أقلهم -: ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم ومواثيقكم بالله لا تعصونه شيئا وقد صدقكم في أول حديثه، فوالله ليصدقنكم في آخره، قال: فراح فيمن اتبعه، وتخلف بقيتهم، فنذر بهم عدو، فأصبحوا من بين أسير وقتيل] خرجه ابن أبي الدنيا.

قال ابن رجب رحمه الله: "هذا المثل في غاية المطابقة بحال النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أمته، فإنه أتاهم والعرب حينئذ أذل الناس، وأقلهم، وأسوؤهم عيشا في الدنيا وحالا في الآخرة، فدعاهم إلى سلوك طريق النجاة، وظهر لهم من براهين صدقه، كما ظهر من صدق الذي جاء إلى القوم الذين في المفازة، وقد نفد ماؤهم، وهلك ظهرهم برؤيته في حلة مترجلا يقطر رأسه ماء، ودلهم على الماء والرياض المعشبة، فاستدلوا بهيئته وحاله على صدق مقاله، فاتبعوه، ووعد من اتبعه بفتح بلاد فارس والروم، وأخذ كنوزهما، وحذرهم من الاغترار بذلك، والوقوف معه، وأمرهم بالتجزي من الدنيا بالبلاغ، وبالجد والاجتهاد في طلب الآخرة والاستعداد لها، فوجدوا ما وعدهم به كله حقا، فلما فتحت عليهم الدنيا - كما وعدهم - اشتغل أكثر الناس بجمعها واكتنازها، والمنافسة فيها، ورضوا بالإقامة فيها، والتمتع بشهواتها، وتركوا الاستعداد للآخرة التي أمرهم بالجد والاجتهاد في طلبها، وقبل قليل من الناس وصيته في الجد في طلب الآخرة والاستعداد لها. فهذه الطائفة القليلة نجت، ولحقت نبيها في الآخرة حيث سلكت طريقه في الدنيا، وقبلت وصيته، وامتثلت ما أمر به. وأما أكثر الناس، فلم يزالوا في سكرة الدنيا والتكاثر فيها، فشغلهم ذلك عن الآخرة حتى فاجأهم الموت بغتة على هذه الغرة، فهلكوا وأصبحوا ما بين قتيل وأسير".

إننا نذكر أنفسنا بأننا هنا لنتزود من دار المقر إلى دار المستقر، ولا ننسى أن دارنا الحقيقية هي الجنة التي أخرجنا منها إبليس، وأنها الموعد الذي ينبغي أن نسعى إليه ونعمل للعودة إليه.. ولا نغتر بالدنيا كما قال لنا ربنا: {ياأيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور}، وقال: {إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار}.
فحي على جنات عدن فإنـها ... منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكنـنا سبي العدو فهل ترى ... نعــود إلى أوطانــنا ونســلم
وقد زعموا أن الغريب إذا نأى..وشطت به أوطانه فهو مغرم
وأي اغتراب فوق غربتنا التي..لها أضحت الأعداء فينا تحكم

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة