الإنسان بين التوفيق والخذلان

7 2253

التوفيق هو: الإلهام للخير، يقال: وفقه الله أي ألهمه إياه وسدد خطاه وأنجحه فيما سعى إليه.
أما الخذلان فمعناه: ترك العون، يقال خذله الله: أي: تخلى عن نصرته وإعانته، وفي التنزيل: {وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده}، أي: وإن أراد خذلانكم وترك معونتكم فلا ناصر لكم.

والخذول صيغة مبالغة أي كثير الخذلان، وهو من يتخلى عن نصرة صاحبه ومساعدته في أحرج الأوقات، قال تعالى: {وكان الشيطان للإنسان خذولا} أي يضله ويغويه ويزين له الباطل ويقبح له الحق، ويعده الأماني ثم يتخلى عنه وقت الحاجة فلا ينقذه ولا ينصره.

ولكل من التوفيق والخذلان أسباب:- 
أما أسباب التوفيق فمنها
ذل العبد وانكساره، وخضوعه لله، واقراره بعجزه وضعفه: فيقر العبد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة بافتقاره التام إلى ربه ووليه، ومن بيده صلاحه وفلاحه، وهداه وسعادته، وهذه الحال التي تحصل لقلبه لا تنال العبارة حقيقتها، وإنما تدرك بالحصول، فيحصل لقلبه كسرة خاصة لا يشبهها شيء.... فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور! وما أدنى النصر والرحمة والرزق منه! وما أنفع هذا المشهد له وأجداه عليه! وذرة من هذا ونفس منه أحب إلى الله من طاعات أمثال الجبال من المدلين المعجبين بأعمالهم وعلومهم وأحوالهم. ( مدارج السالكين لابن القيم)

ومنها النية الصالحة: فعلى قدر نية العبد وهمته ومراده ورغبته يكون توفيقه سبحانه وإعانته، فالمعونة من الله تنزل على العباد على قدر هممهم وثباتهم ورغبتهم ورهبتهم، والخذلان ينزل عليهم على حسب ذلك، فالله سبحانه أحكم الحاكمين وأعلم العالمين يضع التوفيق في مواضعه اللائقة به والخذلان في مواضعه اللائقة به الفوائد لابن القيم

أما أسباب الخذلان فمنها:
اتباع الهوى: إذ إنه يغلق عن العبد أبواب التوفيق ويفتح عليه أبواب الخذلان، فتراه يلهج بأن الله لو وفق لكان كذا وكذا، وقد سد على نفسه طرق التوفيق باتباعه هواه، قال الفضيل بن عياض: من استحوذ عليه الهوى واتباع الشهوات انقطعت عنه موارد التوفيق. روضة المحبين ونزهة المشتاقين
ويشهد لهذا قوله تعالى: {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} أي: لا تمل مع أهواء نفسك وحظوظها، فيصرفك الله عن الدلائل الدالة على الحق.
 
الرياء وملاحظة المخلوقين: لا ينفك أحد عن التطلع إلى حب لذة المحمدة والجاه والطمع فيما في أيدي الناس، لكن من كمل عقله ووفق لاتباع الحق رأى ذلك مرضا مهلكا فاحتاج إلى دواء يزيله ويقطع عروقه ، وذلك الدواء النافع هو أن يعرض عن رغبته في كل ذلك لما فيه من المضرة، وفوات صلاح القلب، وحرمان التوفيق في الحال والمنزلة الرفيعة في الآخرة، والعقاب العظيم والمقت الشديد والخزي الظاهر، حيث ينادى على رءوس الخلائق ويقال للمرائي: يا فاجر، يا غادر، يا مرائي أما استحييت إذا اشتريت بطاعة الله تعالى عرض الحياة الدنيا، راقبت قلوب العباد واستهزأت بنظر الله تعالى وطاعته، ....ولا يخلو الطامع في الخلق من الذل والخيبة أو من المنة والمهانة. الزواجر عن اقتراف الكبائر
 
- التكبر والغرور: إذا عرف العبد قدر النعمة وخطرها وشكر المنعم عليها، أدامها الله عليه وأزادها، كما قال تعالى عن سليمان بن داو : {هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر} أي: هذا من فضل الله علي، وإحسانه إلي، ولم يقل هذا من كرامتي. فإذا علم الله سبحانه هذا من قلب عبد فذلك من أعظم أسباب توفيقه. وأما إن وافته النعم فقال هذا لي، وإنما أوتيته لأني أهله ومستحقه، فتعجبه نفسه وتطغى بالنعمة وتستطيل على غيرها، فيكون حظها منها الفرح والفخر، كما قال تعالى عن قارون: {إنما أوتيته على علم عندي} أي: لولا رضاه عني، ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا المال. فإذا علم الله سبحانه هذا من قلب عبد فذلك من أعظم أسباب خذلانه وتخليه عنه.

- التعلق بغير الله: أعظم الناس خذلانا من تعلق بغير الله، فإن ما فاته من مصالحه وسعادته وفلاحه أعظم مما حصل له ممن تعلق به، وهو معرض للزوال والفوات. ومثل المتعلق بغير الله كمثل المستظل من الحر والبرد ببيت العنكبوت.. كما قال تعالى: {لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا} مذموما لا حامد لك، مخذولا لا ناصر لك. مدارج السالكين

- كثرة المعاصي: فمن عقوباتها أنها تعمي بصيرة القلب وتطمس نوره، وتسد طرق العلم ، وتحجب مواد الهداية. وقد قال مالك للشافعي لما اجتمع به: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورا، فلا تطفئه بظلمة المعصية. ولا يزال هذا النور يضعف ويضمحل، وظلام المعصية يقوى، حتى يصير القلب في مثل الليل البهيم. فكم من مهلك يسقط فيه، وهو لا يبصره، كأعمى خرج بالليل في طريق ذات مهالك ومعاطب. فيا عزة السلامة، ويا سرعة العطب! ثم تقوى تلك الظلمات، وتفيض من القلب إلى الجوارح، فيغشى الوجه منها سواد بحسب قوتها وتزايدها!! الداء والدواء لابن القيم
اللهم من علينا بتوفيقك، وارزقنا الهدى والسداد، وجنبنا الخطأ والزلل والخلل والخذلان، آمين.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة