وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ

0 2252

من أعظم ما تقرب به المتقربون لله ـ عز وجل ـ، طاعة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وقد أمر الله ـ تعالى ـ عباده المؤمنين بطاعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وألزمهم بها في مواضع كثيرة من القرآن العظيم، وكذا على لسان نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهذا الأمر معلوم من الدين بالضرورة، ولا يسع أحد إنكاره، قال تعالى: { من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا }(النساء:80)، وقال: { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين }(المائدة:92)، وقال: { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون }(النور:56)، وقال تعالى: { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب }(الحشر: 7) .
قال الحافظ ابن كثير: " أي مهما أمركم به فافعلوه، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمركم بخير وإنما ينهى عن شر" .
وقال الشيخ السعدي: " وهذا شامل لأصول الدين وفروعه، ظاهره وباطنه، وأن ما جاء به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتعين على العباد الأخذ به واتباعه، ولا تحل مخالفته، وأن نص الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على حكم الشيء كنص الله - تعالى ـ، لا رخصة لأحد ولا عذر له في تركه، ولا يجوز تقديم قول أحد على قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " .
وقال أحمد بن حنبل: " نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ثلاثة وثلاثين موضعا " .
وقال ابن تيمية: " أمر الله بطاعة رسوله في أكثر من ثلاثين موضعا من القرآن، وقرن طاعته بطاعته، وقرن بين مخالفته ومخالفته " .

لا تعارض بين الكتاب والسنة :

من المستحيل وجود تعارض بين أوامر الله ـ عز وجل ـ في كتابه الكريم، وبين أوامر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في السنة الصحيحة، لأن الله أمرنا بطاعته ـ سبحانه ـ، وأمرنا كذلك بطاعة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم }(محمد:33) وقد جاءت السنة النبوية لتبين مجمل الكتاب، وتوضح ما اشتمل عليه من الأوامر، ولو ادعى أحد وجود تعارض بين الكتاب والسنة، لاستلزم الأمر أن الله ـ عز وجل ـ قد أمرنا بالشيء ونقيضه، وهذا يستحيل في الشرع الذي أنزله الله ـ تعالى ـ العليم الحكيم، وما كان من تعارض في الظاهر بين الكتاب والسنة فقد أزال العلماء هذا التعارض، بالجمع بينهما، أو بثبوت النسخ ، أو حمل المطلق على المقيد، أو العام على الخاص، أو ضعف الحديث وعدم ثبوته عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وقد قال الشافعي: " على أهل العلم طلب الدلالة من كتاب الله، فما لم يجدوه نصا في كتاب الله، طلبوه في سنة رسول الله، فإن وجدوه فما قبلوا عن رسول الله فعن الله قبلوه، بما افترض من طاعته " .

شبهة: الاستغناء بالقرآن عن السنة :

لا يمكن الاستغناء بالقرآن الكريم عن سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحال من الأحوال، بل لا يمكن أن يفهم الكتاب بمعزل عن السنة، وأي دعوة لفصل أحدهما عن الآخر إنما هي دعوة ضلال وانحراف، وهي في الحقيقة دعوة إلى هدم الدين، وتقويض أركانه والقضاء عليه من أساسه، واعتقاد البعض أن القرآن يكفيهم ضلال، ورد للقرآن الذي أمرنا صراحة بطاعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كل ما أمر ونهى، قال تعالى: { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب }(الحشر: 7) .
وعن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ) رواه أبو داود .
وعن المقداد بن معد يكرب ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ أنه قال: ( ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان علي أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، وإن ما حرم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما حرم الله ) رواه أبو داود .
وهذا الحديث من أعلام نبوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ، إذ ظهر في الأمة أناس ينكرون بعض السنة أو كلها بدعوى الاستغناء عنها بالقرآن الكريم .
قال الخطابي: " وفي الحديث دليل على أن لا حاجة بالحديث أن يعرض على الكتاب، وأنه مهما ثبت عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان حجة بنفسه، فأما ما رواه بعضهم أنه قال: " إذا جاءكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافقه فخذوه، وإن خالفه فدعوه " فإنه حديث باطل لا أصل له، وقد حكى زكريا الساجي عن يحيى بن معين أنه قال: هذا حديث وضعته الزنادقة ".

والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له من الأوامر والنواهي التي ليس لها ذكر في كتاب الله ـ عز وجل ـ الكثير، وهي أكثر من أن تحصى، والمسلم مأمور بطاعته ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها كالتزامه بطاعة الله، ومنها على سبيل المثال في الصلوات: تشريع صلاة الاستسقاء، والجنازة، وصلاة العيدين، وسجود الشكر، وفي الزكاة: زكاة الفطر وغيرها من زكوات، وفيما يحرم لبسه: تحريم الذهب والحرير على الرجال، وفيما يتعلق بآداب الطعام والشراب وتحريم الأكل في آنية الذهب والفضة، كما أن في السنة: الأمر بحضور الجماعات، وتغسيل الميت، وتكفينه ودفنه، وغير ذلك من أمور جاءت بها السنة النبوية ولم ترد في كتاب الله ـ عز وجل ـ .
عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: ( لعن الله الواشمات (التي تقوم بعمل الوشم) والمستوشمات (التي تطلب الوشم)، والنامصات (التي تفعله) والمتنمصات (التي تطلب النماص)، والمتفلجات  للحسن (التي تبرد ما بين أسنانها) المغيرات خلق الله، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها: أم يعقوب، وكانت تقرأ القرآن، فأتته فقالت: ما حديث بلغني عنك، أنك لعنت الواشمات والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله، فقال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهو في كتاب الله؟، فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته، فقال: إن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، قال الله ـ عز وجل ـ: { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب }(الحشر: 7)، قالت: بلى، قال: فإنه قد نهى عنه ) رواه مسلم .

عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :

لم يفرق ربنا ـ عز وجل ـ بين طاعته سبحانه وبين طاعة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، بل جعل طاعة نبيه طاعة له سبحانه، فقال تعالى: { من يطع الرسول فقد أطاع الله }(النساء: 80)، وغالب الآيات القرآنية قرنت بين طاعته ـ سبحانه ـ وطاعة نبيه، وما سنه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما ليس فيه نص من كتاب الله فإنما سنه بأمر الله ووحيه .
قال الشافعي: " وما سن رسول الله فيما ليس لله فيه حكم، فبحكم الله سنه " .
فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ معصوم من أن يصدر عنه ما يخالف القرآن الكريم، وقد دلت الآية الكريمة: { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب }(الحشر: 7)، دلالة مباشرة على عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جميع أقواله وأفعاله، وكل ما أمر به، أو نهى عنه، ووجه ذلك أن من وجبت طاعته طاعة مطلقة بلا قيد ولا شرط وجب أن يكون معصوما، وما كان الله ليأمرنا أمرا مطلقا باتباع كل ما جاء بالسنة النبوية، إلا لعلمه ـ سبحانه ـ بعصمة صاحب هذه السنة ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ، في جده وضحكه، ورضاه وغضبه، وصحته ومرضه، وفي حله وترحاله، قال الله ـ تعالى ـ : { وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى }(لنجم 3 : 4) .
قال القاضى عياض : " واعلم أن الأمة مجمعة على عصمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الشيطان وكفايته منه، لا في جسمه بأنواع الأذى - كالجنون والإغماء -، ولا على خاطره بالوساوس " .

ستظل سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على مدى الأجيال والقرون، وحتى يرث الله الأرض ومن عليها نبراسا للمسلمين، تضيء لهم حياتهم، ولئن انتقل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى جوار ربه، فإن الله قد حفظ لنا كتابه وسنة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فهما طريق الهداية والسعادة في الدنيا والآخرة، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( تركت فيكم أمرين، لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله ) رواه الحاكم .
قال الشيخ الألباني: " والحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام " .

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المعظمين لرسولنا - صلى الله عليه وسلم ـ وسنته، المتبعين لها، وأن يسقينا من يده الشريفة شربة لا نظمأ بعدها أبدا ..
 

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة