فلذلك نحب الملائكة

2 1866

جبريل، إسرافيل، ميكائل، خازن الجنة، وغيرهم ممن ذكرهم الله ورسوله، كلها أسماء لملائكة يسعد المرء المؤمن بسماعها، بل إن القلب يخفق بحبهم، ويرتاح لقراءة أخبارهم المذكورة في الوحيين، والتي تذكر أفعالهم وصفاتهم.

ولا شك أن المحبة تزداد بزيادة معرفة واستحضار الفضائل التي بموجبها ينال المحبوب تلك المكانة في قلب المحب، صحيح أن محبة الملائكة إجمالا وتفصيلا مركوز في الفطر السوية، لكننا بحاجة إلى استحضار الأسباب والدواعي التي تجعل من هذه المحبة تقف على أساس متين؛ ولأجل ذلك كان هذا الموضوع الذي نوجز فيه ذكر جملة من الأسباب التي تدعونا إلى محبة الملائكة ومودتهم وتعظيمهم، وإنزالهم المنزلة اللائقة بهم.

ولا أحد يدعي أننا سنأتي على جميع تلك الأسباب الموجبة لمحبة الملائكة، ولكن سنذكر طرفا منها فحسب، وكلما تأمل العبد المؤمن سيرهم وأخبارهم تكشفت له جوانب أكثر، وسنكتفي بذكر الآتي:

أولا: نحب الملائكة الكرام لأنهم يؤمنون بالله سبحانه وتعالى ويوحدونه، فليس فيهم ملك واحد على كثرة أعدادهم حاد عن طريق العبودية أو الصراط المستقيم، فكلهم يشهدون بشهادة التوحيد، كما قال تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم} (آل عمران:18)، ولعل هذا يفسر ما جاء في الآية من اقتران شهادة الله بشهادة ملائكته وتقديمها على شهادة أولي العلم، والله أعلم.

ثانيا: نحب الملائكة الكرام؛ لأنهم يطلبون من الله سبحانه وتعالى أن يغفر للمؤمنين والمؤمنات وأن يتجاوز عن زللهم وخطئهم، فإذا كانت الملائكة لا يصدر منهم الذنب لأجل طبيعتهم النورانية، فإن المؤمنين يذنبون بين الحين والآخر، ولا ترضى الملائكة أن يقابل المؤمنون ربهم يوم القيامة وقد سودت صحائفهم بالذنوب؛ فلذلك يستغفرون لهم، ويدعون لهم بالوقاية من النار، قال الله تعالى: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا} (غافر:7)، وكيف لا نحب ملائكة لم تزل تحب الخير والتوفيق والسداد والرحمة للمؤمنين جميعا؟ فها هي الآية تشكف لنا عن ذلك بجلاء: { هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما} (الأحزاب:43).

يقول الشيخ السعدي: " من رحمته بالمؤمنين ولطفه بهم، أن جعل من صلاته عليهم، وثنائه، وصلاة ملائكته ودعائهم، ما يخرجهم من ظلمات الذنوب والجهل، إلى نور الإيمان، والتوفيق، والعلم، والعمل، فهذه أعظم نعمة، أنعم بها على العباد الطائعين، تستدعي منهم شكرها".

ثالثا: نحب الملائكة الكرام، لأنهم يحسنون الثناء والمدح لخالقهم ومولاهم جل جلاله، ويطبقون آداب الدعاء التي تعلمناها نحن المؤمنين من رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فقد تعلمنا من سنته النبوية أن نتوسل إلى الله بالدعاء.

وإذا كان التوسل هو في حقيقته: أن هو أن يقدم العبد بين يدي مناجاته لربه ما يتوصل به إلى مطلوبه من تقبل الدعاء ونيل المطلوب، فإننا نجد ذلك ماثلا في الآية التي سبق ذكرها في الفقرة السابقة، فلننظر إلى تمام الآية ماذا قالت الملائكة: {ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم} وفي ذلك بيان لانتقائهم من أنواع التوسل ما يتناسب مع المقام، فقد توسلوا بصفات الله تعالى العظيمة التي تقتضي التجاوز عن المذنبين، فاستهلوا دعائهم بذكر علمه ورحمته التي وسعت كل شيء، فلا تخفى عليه خافية من حال مخلوقاته، وما جبل عليه الجنس البشري من الضعف والنقص: {وخلق الإنسان ضعيفا} (النساء:28)، وبينوا فضل الله سبحانه وتعالى وإحسانه الذي وصل إلى ما وصل إليه علمه، فالكون علويه وسفليه قد امتلأ بعلم الله تعالى ورحمته، وهذه هي البراعة في انتقاء ألفاظ الدعاء بما يتناسب مع حال الداعي وحاجته.

رابعا: نحب الملائكة الكرام، لأنهم يطلبون من الله تعالى كل يوم أن يعوض عمن جاهد نفسه وقهر حظوظها وتعلقها بمال الدنيا الزائل، فأقرض الله قرضا حسنا، وبذل ماله طلبا في رضا خالقه، ولم تزل الملائكة تدعوا للمؤمنين بهذا الدعاء حتى يرث الله الأرض ومن عليها، روى أبو هريرة رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا) متفق عليه.

خامسا: نحب الملائكة الكرام، لأدبهم مع الله تعالى، والقرآن شاهد على هذا الأدب ففي قصة آدم عليه السلام التي ذكرت في سورة البقرة، علم ربنا تبارك وتعالى آدم أسماء الأشياء كلها، ثم قال للملائكة : {أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} (البقرة: 31)، فلم يعتذروا عن الإجابة ببيان قصور علمهم فحسب، بل قالوا: {سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم} (البقرة:32)، فنزهوا الله تعالى من كل نقص وعيب، وبينوا أن سؤالهم عن خليفة الله في الأرض ما كان على وجه الاعتراض، ولكن كان على وجه الاستفصال والسؤال، واعترفوا بفضل الله عليهم بتعليمهم ما لم يكونوا يعلمون، ثم ختموا قولهم بالإقرار بعلم الله وحكمته.

من أدبهم كذلك: ما جاء في قوله تعالى: {حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير} (سبأ:23)، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا، في وصف حال تلقي الملائكة لأوامر الله تبارك وتعالى: (إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير)، ولنتأمل ما ورد في الحديث السابق من الألفاظ الموحية: ضربت الملائكة بأجنحتها، خضعانا لقوله، فزع عن قلوبهم، قالوا الحق، وهو العلي الكبير، وكلها ألفاظ تبين الإجلال لذي الجلال، والمسكنة بين يدي الكبير المتعال، والخشوع بين يديه إلى حد الفزع: { وهم من خشيته مشفقون} (الأنبياء:28)، والاعتراف التام بأن ما يقوله الله حق وصدق.

ومن أدبهم ما جاء في قوله تعالى: { لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} (الأنبياء:27)، فهم معصومون عن مخالفة أمره سبحانه، ولا يتكلمون إلا بما يأمرهم به ربهم، كما أنهم لا يقصرون في واجب عليهم، ولا يأنفون أو يتكبرون عن عبادته سبحانه، كما جاء في الآية الكريمة: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون} (النساء:172).

ومن أدبهم كذلك: حسن وقوفهم بين يدي الله تعالى على نحو يثير الإعجاب، ويستلهم النبي –صلى الله عليه وسلم- هذا الأدب منهم ويجعله مثار إعجاب ومحل اقتداء، فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟) فقلنا يا رسول الله، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: (يتمون الصفوف الأول ويتراصون في الصف) رواه مسلم.

سادسا: نحب الملائكة الكرام، للجانب التعبدي الذي تحلوا به، بحيث بلغوا فيه مرتبة الكمال، وقد وردت الكثير من الآيات الأحاديث التي تبين تحقيقهم للعبودية على أتم وجه، نذكر منها قول الله تعالى: { وما منا إلا له مقام معلوم* وإنا لنحن الصافون*وإنا لنحن المسبحون} (الصافات:164-166)، وقوله تعالى: {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} (الأنبياء:20)، وحديث أبي ذر رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:(إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء، وحق لها أن تئط! ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله) رواه الترمذي. والأطيط: الصوت الذي يصدر من الراحلة، والمعنى أن كثرة ما في السماء من الملائكة أثقلها حتى صدر منها ذلك الصوت.

سابعا: نحب الملائكة الكرام لمحبتهم للمؤمنين، فقد روىالبخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا أحب الله العبد، نادى جبريل: إن الله يحب فلانا فأحببه. فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانا فأحبوه. فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض) رواه البخاري.

ثامنا: نحب الملائكة الكرام، لتتبعهم مجالس الذكر، وقد ورد ذلك تفصيلا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن لله ملائكة يطوفون في الطرق، يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم. فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، فيسألهم ربهم، وهو أعلم منهم: ما يقول عبادي؟ قالوا: يسبحونك ويكبرونك، ويحمدونك ويمجدونك. فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا والله ما رأوك! فيقول: وكيف لو رأوني؟ يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيدا وتحميدا، وأكثر لك تسبيحا ..) الحديث بتمامه رواه البخاري.

تاسعا: نحب الملائكة الكرام، لتوليهم الدفاع عن المؤمنين، ونصرتهم ، نجد ذلك في الآيات التي بينت معالم غزوة بدر، يقول الله تعالى: {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان} (الأنفال:12)، ويروي عمر رضي الله عنه ملامح من هذا العون الإلهي الذي جاء على يد الملائكة فيقول: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم -اسم فرس من خيل الملائكة-، فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا، فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه (قطع أنفه)، وشق وجهه كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة) رواه مسلم.

وعن معاذ بن رفاعة عن أبيه، وكان أبوه من أهل بدر، قال: "جاء جبريل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم- فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟، قال: (من أفضل المسلمين -أو كلمة نحوها-)، قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة"، رواه البخاري.

وتتحدث سورة الرعد عن قيام الملائكة بحراسة المؤمنين وحفظهم بأمر الله، ما لم يأت القدر، فإذا جاء القدر خلوا عنهم، قال سبحانه: { له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} (الرعد:11)، وتفسير ذلك كما جاء عن مجاهد: " ما من عبد إلا وله ملك موكل به، يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما منهم شيء يأتيه يريده إلا قال: وراءك. إلا شيء يأذن الله فيه فيصيبه".

عاشرا: نحب الملائكة الكرام، لأن الله قد وصفهم بأنهم كرام بررة، فقال: {بأيدي سفرة* كرام بررة} (عبس:15-16)، والمعنى المقصود كما يقول ابن كثير في تفسيره: " خلقهم كريم حسن شريف، وأخلاقهم وأفعالهم بارة طاهرة كاملة".

ومن كرم الملائكة ما اتصفوا به من الحياء الشديد، نعم: هم أقوياء أشداء لا قدرة للبشر على مواجهتهم، لكنها قوة يخالجها الحياء ممن يستحقون الحياء، ولا أدل على ذلك من وصف النبي –صلى الله عليه وسلم- لعثمان بن عفان رضي الله عنه: (ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة) رواه مسلم.

الحادي عشر: نحب الملائكة الكرام، لبغضهم لأهل الكفر والنفاق، قال جل وعلا : {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} (البقرة:159).

ونرى في السنة تغيظ جبريل عليه السلام من فرعون الذي تجرأ بادعاء الألوهية، وطغا وتجبر، فأكثر في الأرض الفساد، فخشي أن تدركه رحمة الله! جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لما أغرق الله فرعون قال: {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل} (يونس:90)، فقال جبريل: يا محمد! فلو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة) رواه الترمذي، والمعنى أنه أخذ من طين البحر فوضعه في فم فرعون.

ومن بغض الملائكة لأهل الكفر قيامهم بتعذيبهم حين نزع الروح من الجسد، قال تعالى: {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق* ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد}(الأنفال:50-51).

الثاني عشر: نحب الملائكة الكرام، لحسن أدبهم مع الأنبياء، ومن ذلك استئذان ملكي الجبال في استئصال المشركين الذين آذوا النبي –صلى الله عليه وسلم-، والكلام هنا على طريقة العرض وأسلوب الحوار، فقد سلما عليه ثم قال ملك الجبال: "يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين" متفق عليه واللفظ لمسلم، والأخشبان هما جبل مكة، والحديث هنا وإن كان بلسان ملك واحد فقد وردت أحاديث أخرى تصرح بالملكين.

الثالث عشر: نحب الملائكة الكرام، لما يقومون به من الشفاعة للمؤمنين، قال سبحانه: {وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} (النجم:26)، وصح في الحديث القدسي قول الله عز وجل: (شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين) رواه مسلم.

الرابع عشر: نحب الملائكة الكرام، لدقتهم في العمل وإتقانهم له، نلمس هذه القضية من مجموع النصوص التي تبين تعاقبهم في العمل وقيامهم به على أتم صورة، بالرغم من صعوبته، واستغراق تلك الأعمال للوقت كله، ومع ذلك: لا خلل ولا نقص بوجه من الوجوه، ويكفينا من ذلك معرفة ما يقوم به الملكان الموكلان على كل شخص من كتابة أعماله، دون أن يفوتوا صغيرة أو كبيرة من القول والعمل، ثم شهادة الناس على ذلك يوم القيامة: { ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها} (الكهف:49).

وأخيرا: فإن الملائكة الكرام الأطهار، كان أصل خلقتهم سببا لما هم عليه من السمو والرفعة، فقد خلقوا من نور، والنور لا يأتي إلا بخير، فلذلك اتصفوا بالطهارة والنزاهة، والقداسة من مقارفة الآثام والخطايا، فلكل ما سبق ذكره، ولأسباب أخرى عديدة، نحب الملائكة، ونشهد الله على محبتهم.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة