كتاب إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز

0 1192

يعد الأستاذ النورسي من العلماء الذين كرسوا حياتهم للدفاع عن القرآن وأهل الإسلام، في وقت كانت فيه دولة الإسلام تتعرض لهجمة عنيفة شرسة من أعدائها، الذين يتربصون بها الدوائر، كادت الأمة بسببها تفقد هويتها وتذهب معالمها. وقد وفق الأستاذ إلى حد كبير في الحفاظ على هوية الأمة الإسلامية من خلال جهاده العلمي والعملي.

وكان من الآثار العلمية التي تركها لنا الأستاذ النورسي كتابه الموسوم بـ (إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز) وهو عبارة عن نظرات في كتاب الله تعالى، تنم عن بصيرة نافذة، ومعرفة كلامية وبلاغية عميقة، وذوق ذاتي رفيع، ومنهج عقلي سديد. كتبه وهو يؤدي فريضة الجهاد في الخط الأمامي لساحة القتال، وأحيانا كان على صهوة جواده، يدافع عن حياض الأمة، ويدفع عنها جيوش الروس الملحد.

مضمون الكتاب

ذكر الأستاذ النورسي في مقدمة كتابه أنه ألف كتابه هذا في السنة الأولى من الحرب العالمية الأولى على جبهة القتال، دون مصدر يعود إليه، أو مرجع يعول عليه، وذكر أن ما ضمنه في كتابه هذا من نكات بلاغية وإعجازية إنما تعود العهدة عليه فيما كتب. وقد اقتضت ظروف الحرب الشاقة، وما واكبها من حرمان، أن يكتب هذا التفسير في غاية الإيجاز والاختصار لأسباب عديدة. وبقيت الفاتحة والنصف الأول من التفسير على نحو أشد إجمالا واختصارا؛ لأن ذلك الزمان لم يكن يسمح بالإيضاح المستوفى؛ ولأن النورسي كان يضع درجة أفهام طلبته الأذكياء جدا موضع الاعتبار. ولم يكن يكتب لغيرهم.

بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وعاد الأستاذ منها سالما، أجال النظر فيما كتبه في ساحات المعارك، وعلى أنغام قعقعة السلاح، فوجد أن ما كتبه بما يحتويه من تدقيقات، يعد بحق تحفة؛ ذلك أنه كتبه في ظرف كان يتوثب فيه لنيل مرتبة الشهادة، فقيد ما لاح له في الأودية والجبال بعبارات متفاوتة باختلاف الحالات، فمع احتياجها إلى التصحيح والإصلاح لم تطاوعه نفسه بتغييرها وتبديلها؛ إذ كتبها في حالة من خلوص النية، ومن ثم تركها كما هي؛ لينظر فيها أهل العلم لا على أنها تفسير للتنزيل، بل لتصير -لو نالت القبول- نوع مأخذ لبعض وجوه التفسير. 

ضمن النورسي بين دفتي كتابه نكات بلاغية دقيقة، قد لا يفهمها كثير من القراء، ولا يعيرون لها اهتمامهم، ولا سيما ما جاء ضمن آيتي سورة البقرة اللتين تصفان حال الكفار، والآيات الاثنتي عشرة الخاصة بالمنافقين.

وقد ذكر الأستاذ النورسي نكات دقيقة في تلك الآيات، واقتصر على بيان دقائق دلالات ألفاظها، وبدائع إشاراتها باهتمام بالغ، من دون تفصيل لماهية الكفر، مع تطرق يسير إلى الشبهات التي يلتزمها المنافقون -خلافا لما جرى في سائر الآيات من تحقيق وتفصيل- وأرجع مسلكه هذا؛ لئلا يكدر الأذهان، ويعكر صفوها بمسائل ليس هذا أوان البحث فيها، والخوض في تفاصيلها.

هدف الكتاب

سعى الأستاذ النورسي من خلاله كتابه هذا إلى أن يطبق فيه (نظرية النظم) التي وضعها عبد القاهر الجرجاني تطبيقا تفصيليا شاملا من حيث المباني والمعاني، ومن حيث المعارف اللغوية والعقلية والذوقية، الكلية منها والجزئية، والتي اعتمد عليها في الكشف عن تفاصيل المنظومة القرآنية التي بها يظهر الإعجاز، وتتكشف دقائق خصائص الأسلوب القرآني، التي حيرت البلغاء، وأخرست الفصحاء، ليحق عليهم التحدي المعجز إلى يوم القيامة. عموما، فإن الهدف من وضع النورسي لكتابه هذا هو تفسير جملة من القرآن الكريم وفقا لنظرية النظم الجرجانية؛ لأن الإعجاز القرآني -بحسب النورسي- يتجلى من خلال نظمه. وما الإعجاز الزاهر إلا نقش النظم.

على أن النورسي لم يوجه جهوده في هذا الكتاب إلى بيان نظرية النظم، مقدمة لإثبات إعجاز القرآن البلاغي فحسب، بل اتجهت جهوده كذلك إلى التغلغل في معاني الآيات، حيث أراد بناءها تفصيلا على المرتكزات العقلية للوصول إلى إظهار العقائد الإسلامية، وارتباطها بحقائق الوجود.

عمل النورسي في هذا الكتاب

كان الأستاذ النورسي قبل أن يؤلف كتابه هذا يتطلع دائما إلى انتهاض لجنة مؤلفة من كبار العلماء المتخصصين، كل في ناحية من نواحي العلم، تقوم بدراسات طويلة في شتى نواحي الكتاب الكريم، حتى يتحصل ويتولد من مجهوداتهم الكثيرة، ودراساتهم الطويلة تفسير جامع للقرآن المبين، يستجيب لحاجات القرن العشرين، واستمر لديه ذلك التطلع والترقب إلى أن اندلعت الحرب العالمية الأولى، وكشرت عن أنيابها، وكانت تركيا المسلمة هدفا مركزيا لمديري هذه الحرب. فلما أيس الأستاذ من تحقق ذلك الأمل، اضطر أن يكتب ما يلوح له من إشارات حول إعجاز القرآن. فأخذ يقيد ويصنف ويرتب ما يسنح له في شرح آي الذكر الحكيم. فجاء منه هذا القسم المتضمن لنظرات في سورة الفاتحة وبدايات سورة البقرة إلى قوله سبحانه: {وعلم آدم الأسماء كلها} (البقرة:31).

وقف النورسي عند هذا الحد، ودفعته ظروف عصره وبلده إلى أتون الصراع، ولكن في قالب جديد ممثلا بـ (سعيد الجديد) سمته الهدوء، والتدرج، والبناء، والنفوذ المحكم إلى عقول المسلمين وقلوبهم، دون صراخ عاطفي، أو تهريج مدمر، أو صدامات فوقية، لم يكن الوضع الإسلامي يومئذ مهيئا لها، ويقوى فيها على مجابهة الأعداء الأقوياء في الداخل والخارج.

وقد استطاع أن يثبت من خلال جزء كامل من هذا الكتاب إعجاز القرآن الكريم، ويبرهن للدارسين وطلاب الحقيقة، أنه من السهل أن يستمر في ضوء منهجه العلمي والعقلي والذوقي الرفيع إلى النهاية، إذن فليكن هذا كافيا، وليتوجه بكليته وبقية حياته العامرة إلى القضية الأساس، وهي إنقاذ إيمان المسلمين في عصر الصراع الإعلامي الرهيب.

على أن ما من فكرة شرحها الأستاذ النورسي، أو بسطها، أو مثل عليها إلا تجد لها بذورا موجزة، أو مفصلة في هذا الكتاب العلمي، ولا سيما في عرض أصول العقائد الإسلامية بأسلوب عصري علمي. غير أنه اتجه في كتابه هذا إلى مخاطبة خاصة تلامذته من خلال دمج المصطلحات الكلامية القديمة ببدايات منهجه الجديد الذي استقر عليه فيما بعد في (رسائل النور).

إذن، الأستاذ النورسي كان يريد أن يؤلف تفسيرا كاملا في هذا الاتجاه. ولو قدر له أن ينهي عمله هذا كاملا، إذن لقدم تفسيرا بلاغيا وعقليا كاملا شاملا، كان جديرا بأن يأخذ منه عمره كله، حيث كان من المحقق أن يحوي حينئذ عشرات المجلدات الضخام، لو أنه مشى في ضوء منهجه هذا الذي نقرأه في هذا الكتاب.

ولكن الله سبحانه وتعالى قدر له الأفضل من ذلك؛ إذ وفقه لعمل أجل من ذلك وأعظم. عمل استطاع فيه أن يضع مسلمي بلده في ظروف عصره في مواجهة القرآن الكريم، دون إشغالهم بقضايا بلاغته وإعجازه اللغوي، والتي لم تكن مشكلة عصره من خلال التحقيق في جزئيات دقيقة لا يقوى على فهمها إلا الخواص جدا.

على أنه لولا موانع الحرب، لكانت نية الأستاذ تتجه إلى أن يكون ما كتبه في هذا الكتاب وقفا على توضيح الإعجاز النظمي من وجوه إعجاز القرآن، وأن تكون الأجزاء الباقية كل واحد منها وقفا على سائر أوجه الإعجاز.

منهج النورسي في كتابه

بدأ النورسي كتابه بتعريف القرآن الكريم، فعرفه بأنه الترجمة الأزلية لهذه الكائنات، والترجمان الأبدي لألسنتها التاليات للآيات التكوينية، ومفسر كتاب العالم.

وعادة ما يبدأ النورسي في تفسيره للآية بمقدمة، تشتمل على تفسير إجمالي لمعنى الآية، ثم يتناول كل آية وفق اعتبارات ثلاثة: باعتبار علاقتها بما سبقها، وباعتبار ما بعدها، وباعتبار ما تضمنه من نكات بذاتها، ويعبر عن هذه الاعتبارات الثلاثة بقوله: "مدار النظر في هذه الآية من ثلاثة وجوه: نظمها بسابقتها، والنظم بين جملها، ثم النظر بين هيئات جملة جملة". ويعتمد النورسي أسلوب المتقدمين في تناوله لبعض متعلقات الآية التي يفسرها، فتراه يقول: "فإن قلت:...قلت:...".

أقوال العلماء في هذا الكتاب

لقد أثنى العلماء على هذا الكتاب ثناء حسنا، وجاء الثناء بشكل خاص من طلبة الأستاذ النورسي، الذين تلقوا الكتاب من مؤلفه مباشرة. ومن الثناءات التي قيلت في هذا الكتاب نذكر ما يلي:

أولا: ثناء الشيخ صدر الدين يوكسل البدليسي، فقد قال: رغم أن الكتاب وليد فكر واحد، إلا أنه فريد في بابه، لم ينسج للآن على منواله أي تفسير؛ لأنه يستجلي ويكشف الإعجاز المكنون في نظم الكتاب المجيد بطريقة عجيبة مخترعة، لم نرها، ولم نصادفها فيما عثرنا عليه من مشهور التفاسير المتداولة...إن في عباراته عذوبة وحلاوة وطلاوة بديعة وتدقيقا خارقا جدا في تحليل آي الوحي المنزل...وأعجب من الكل، أنه وجد ذلك التدقيق البالغ والبحث العميق حينما كان ينصب ويتقاطر على المؤلف من جهاته الأربع شآبيب رصاص بنادق الجيوش السوفيتية، فكان الأستاذ يناضل ويطلق بندقيته في صدور الأعداء من جهة، ويضع في مصنع دماغه قنبلة إعجاز القرآن الذرية ليحطم بها بنيان الكفر والضلال من جهة أخرى.

ثانيا: ثناء الأستاذ محسن عبد الحميد أستاذ التفسير والفكر الإسلامي بجامعة بغداد للكتاب، فقد وضع مقدمة لها الكتاب، ومما جاء في مقدمته قوله: "كتاب جليل القدر، رصين السبك، قوي الحجة، يمثل أجلى تمثيل القدرة السريانية الفائقة للأستاذ النورسي، وراء المعاني الدقيقة في كتاباته كلها، ولا سيما العلمية المختصة منها...كانت تلك موهبة عبقرية، وهبه الله تعالى إياه، لينظر في كتاب الله تعالى من خلالها ببصيرة نافذة، ومعرفة كلامية وبلاغية عميقة، وذوق ذاتي رفيع، ومنهج عقلي سديد، يلتمس الكشف عن الحقيقة، ويبغي إيصال الإنسان إلى اقتناع كامل بكون هذا القرآن معجزا، بحيث يجد العقلاء والفصحاء في أنفسهم ضرورة الإيمان والاعتراف بأنه الكتاب الحق، الذي نزل من عند علام الغيوب على رسوله الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم؛ كي يضع الإنسانية على طريق دعوة الحق، وينور بصيرتها بنور الإيمان، وإدراك اليقين للوصول إلى العبودية الخالصة لرب العالمين".

ومما قاله أيضا: "يعد هذا الكتاب نموذجا تحليليا بلاغيا رائعا، يفيد المهتمين بالدراسات الإعجازية والبلاغية والنقدية المعاصرة، ولا سيما في الأوساط العلمية. وسيجد المهتمون بدراسات العقائد الإسلامية من وجهة المنطق العقلاني زادهم فيه من خلال المباحث العقلية والعلمية العميقة التي قدمها الأستاذ تعليقا على الآيات التي حللها من أوائل سورة البقرة". 

أخيرا، فقد أحسن الأستاذ إحسان قاسم الصالحي بتحقيقه هذا الكتاب، حيث أغناه بتدقيقاته المفيدة، وشروحه القيمة في الحواشي. والكتاب ضمن محتويات المكتبة الشاملة.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة