الإعجاز التصويري في القراءات القرآنية .. قوله تعالى {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}

0 1907

 في كلمة {مالك} قراءتان: 

1) قرأ عاصم والكسائي ويعقوب وخلف بالألف مدا {مالك}.

2) وقرأ الباقون من القراء العشرة بغير ألف قصرا {ملك}.

المشهدان اللذان تصورانهما القراءتان

تصور القراءتان المتواترتان هنا مشهدين جزئيين مختلفين ينسجان لنا صورة واحدة في الشكل الكلي: 

المشهد الأول: 

يتجلى من خلال قراءة (ملك يوم الدين) بالقصر: فملك مشتق من الملك، ويفهم منه الآتي:

1) معنى السلطان والقوة والتدبير والحكم والقهر.

2) الملك سبحانه هو المتصرف في أمور العقلاء المختارين بالأمر والنهي والجزاء، ولهذا يقال: (ملك الناس) ولا يقال: (ملك الأشياء) كما روى الطبري عن عبد الله بن عباس: {ملك يوم الدين} يقول: لا يملك أحد في ذلك اليوم معه حكما كملكهم في الدنيا. ثم قال: {لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا} وقال: {وخشعت الأصوات للرحمن}، وقال: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى}، فهو يملك الحكم بينهم وفصل القضاء متفردا به دون سائر خلقه.

ويبين الطبري وغيره من المفسرين جمال المعنى هنا؛ إذ يشهد المستمع لقراءة (ملك يوم الدين) مشهد إخلاص الملك لله يوم الدين، فلا يوجد من ينازعه الملك أو يدعيه يومئذ كما قال تعالى: {الملك يومئذ لله يحكم بينهم}(الحج:56)، وقال: {الملك يومئذ الحق للرحمن} (الفرقان:26)، وقال: {وله الملك يوم ينفخ في الصور} (الأنعام:73)، فيكون لله الملك يوم الدين خالصا دون جميع خلقه الذين كانوا قبل ذلك في الدنيا ملوكا جبابرة ينازعونه الملك ويدافعونه الانفراد بالكبرياء والعظمة والسلطان والجبرية. فأيقنوا بلقاء الله يوم الدين أنهم الصغرة الأذلة، وأن له من دونهم ودون غيرهم الملك والكبرياء والعزة والبهاء كما قال جل ذكره وتقدست أسماؤه في تنزيله: {يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} قال الطبري: "فأخبر تعالى أنه المنفرد يومئذ بالملك دون ملوك الدنيا الذين صاروا يوم الدين من ملكهم إلى ذلة وصغار، ومن دنياهم في المعاد إلى خسار".

وفي البخاري أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يقبض الله الأرض ويطوي السماوات بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض). 

وفي البخاري عن عبد الله بن أنيس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان).

وفي مسلم عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يطوى الله عز وجل السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ثم يطوى الأرضين بشماله ثم يقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون، وعند أحمد وابن حبان عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآيات يوما على المنبر: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه}، ورسول الله يقول هكذا بإصبعه يحركها يمجد الرب جل وعلا نفسه، (أنا الجبار أنا المتكبر أنا الملك أنا العزيز أنا الكريم أنا المتعال)، فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا ليخرن به.

وأما في الدنيا فهو الملك سبحانه يحكم ما يريد، ويرفع من تقرب إليه من العبيد، ولذا جاء في مسلم عن أبى هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ينزل الله إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يمضى ثلث الليل الأول فيقول أنا الملك أنا الملك من ذا الذى يدعونى فأستجيب له من ذا الذى يسألنى فأعطيه من ذا الذى يستغفرنى فأغفر له فلا يزال كذلك حتى يضىء الفجر.

ولذا فهو الملك الحق كما قال سبحانه: {فتعالى الله الملك الحق} (المؤمنون: 116)، {هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس} (الحشر: 23)، لأن ملك ملوك الأرض إلى زوال عنهم ثم إلى زوال عمن ورثهم. 

المشهد الثاني:

تدل عليه قراءة: {مالك يوم الدين} (الفاتحة:4) بالمد مشتقة من الملك، وتدل على المعاني الآتية: 

1) ملك الأعيان: سواء أكانوا بشرا أم غيرهم كالحيوان والأشياء الأخرى، فكلمة {ملك} لا تدل على أنه مالك دلالة مطلقة؛ إذ يقال: ملك العرب، وملك الروم، وإن كان لا يملكهم، بل يحكم بينهم، ويتولى أمرهم، ولكن مالك تدل على التصرف المطلق، فهو يملك أعيانهم، ولذا يقال: فلان مالك الدراهم، ولا يقال: ملك الدراهم، والله تعالى مالك كل شيء.

2) القدرة على التصرف في مملوكاته، فهو لا يحكم فقط بل يملك الأعيان والأشياء، والملك هو الذي يدبر أعمال رعيته العامة ، ولا تصرف له بشيء من شئونهم الخاصة ، والمالك سلطته أعم، فلا ريب أن مالكه هو الذي يتولى جميع شئونه دون سلطانه.

فالملك ملكه أعم وأقوى من المالك، والمالك تصرفه أقوى وأشمل.

فاستفدنا من القراءة الأولى: {ملك} أنه الحاكم فلا يوجد من ينازعه أو حتى يدعي الملك في ذلك اليوم أما في الدنيا فاسم الملك قد يطلقه البشر على بعضهم، والله مكنهم من هذا ابتلاء واختبارا.
واستفدنا من قراءة مالك أنه مع ملكه عليهم فإنه يملك التصرف بهم والتسلط عليهم... 

والسؤال: هل يمكن أن يكون أحد ملكا دون أن يكون مالكا؟

والجواب: نعم فالملك قد يكون ملكا دون أن يكون مالكا –خلافا للطبري رحمه الله- فإن بعض ملوك الدنيا اليوم لهم الاسم الشرفي دون التصرف والحكم كملوك بريطانيا وغيرها، وكما كان عليه الحال في ملوك العباسيين حين ضعف أمرهم حتى قال فيهم القائل في أحد ملوك بني العباس الذي كان له اسم الخلافة (أي الملكية)، لكن دون قدرة على التصرف، لأن قائدي جيشه وصيف وبغا هما اللذان يتصرفان في حكمه-كما في الوافي بالوفيات-:

                                           خليفة في قفص ... بين وصيف وبغا 

                                           يقول ما قالا له ... كمـا تقول البـبغا

 

فـ (مالك) يفيد مملوكا، و(ملك) لا يفيد ذلك، ولكنه يفيد الأمر وسعة المقدرة، وكلا اللفظين أوسع من الآخر في شيء:

- فالملك بالفتح وكسر اللام أدل على التعظيم بالنسبة إلى المالك؛ لأن الملك يسوس العقلاء المأمورين بالأمر والنهي، وذلك أرفع وأشرف من التصرف في الأعيان المملوكة. 

- والملك أعلى شأنا من المالك من هذه الحيثية. 

- ولكن المالك أوسع لشموله لغير العقلاء أيضا. 

- إلا أن الملك أبلغ لدلالته على القوة القاهرة والمالك أكثر إحاطة وتصرفا من الملك. 

والله هو المالك الملك وهو الذي يملك الملك {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير} (آل عمران:26)ولذا قال المباركفوري في تحفة الأحوذي في وصف {مالك الملك}: "أي الذي تنفذ مشيئته في ملكه يجري الأمور فيه على ما يشاء أو الذي له التصرف المطلق". 

اجتماع المشهدين لتكوين الصورة الكلية:

يجتمع المشهدان معا على تكوين المشهد الرائع العظيم الذي يظهر منه أن الله تعالى هو ملك ذلك اليوم الحاكم فيه القادر الذي غلبت قدرته كل شيء، القاهر الذي قهر بسلطانه كل شيء، المتكبر الذي خضع لكبريائه كل شيء فلا ينازعه أحد في ذلك ولو ادعاء كما كان الخلق يعطون هذا الخيار في الدنيا، كما أن الله تعالى أيضا مالك ذلك اليوم المتصرف في أعيان عبيده من خلقه جميعا {إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا*لقد أحصاهم وعدهم عدا*وكلهم آتيه يوم القيامة فردا} (مريم:93-95). 

فهو يحكم بينهم حكم الملك ويتصرف فيهم تصرف المالك يصنع بهم ما شاء كيف شاء، لكن المؤمنين يرجون رحمته وفضله في ذلك اليوم، وهنا نستحضر قصة هارون الرشيد لما حضرته الوفاة وعاين السكرات صاح بقواده وحجابه:- اجمعوا جيوشي فجاؤوا بهم بسيوفهم، ودروعهم لا يكاد يحصي عددهم إلا الله كلهم تحت قيادته وأمره فلما رآهم.. بكى ثم قال:- يا من لا يزول ملكه..ارحم من قد زال ملكه..

خاتمة في تكامل القراءتين:

قال السخاوي في كتابه " فتح الوصيد في شرح القصيد" في باب (سورة أم القرآن): "وأما من أخذ يفضل بين القراءتين فقال: المالك أعم من الملك لأنه يضاف إلى كل متملك من الدواب والثياب وغيرهما، بخلاف الملك فغلط لأن القراءتين صحيحتان، وليس هذا الاحتجاج بصحيح لأن الله تعالي قد وصف نفسه بالمالك والملك فما وجه هذا الترجيح؟؟
وليس لأحد أن يقول: هذا ولا أن يقول أيضا: ملك أولى من مالك، ويحتج بأن كل ملك مالك، وليس كل مالك ملكا، أو أن الملك من نفذ أمره واتسعت قدرته، والمالك ليس إلا الحائز لشيء، فالوصف بالملك أكمل، هذا كله غلط والكل جائز.
وهذا الاحتجاج أيضا واه في نفسه من جهة أن ذلك إنما يكون لبني آدم فأما الخالق تعالى فهو الملك والمالك، فوصفه بالملك لا يخرجه عن الملك، وملك معدول عن مالك للمبالغة". 

وانظر: تفسير الطبري، وتفسير القرطبي، وكتاب الكليات لأبى البقاء الكفوى، وتفسير المنار، وغيرها في هذا الموضوع.

وتأسيسا على ما تقدم، نرى أنه لا وجه لتفضيل قراءة على أخرى -كما فعل بعض المفسرين-؛ إذ لا يظهر وجه للتفضيل هنا، وكل قراءة تدل على معنى جميل في ذاته.
 
ونختم هذه التأملات الرائعة بما رواه الطبراني في المعجم الكبير عن معاذ بن جبل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتقده يوم الجمعة، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى معاذا فقال له: "يا معاذ، ما لي لم أرك؟"، قال: يا رسول الله، ليهودي علي أوقية من تبر، فخرجت إليك فحبسني عنك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معاذ، ألا أعلمك دعاء تدعو به؟ فلو كان عليك من الدين مثل جبل صبر أداه الله عنك وصبر جبل باليمن، فادع به يا معاذ قل: اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء، وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، تولج الليل في النهار، وتولج النهار في الليل، وتخرج الحي من الميت، وتخرج الميت من الحي، وترزق من تشاء بغير حساب رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، تعطي من تشاء منهما، وتمنع من تشاء، ارحمني رحمة تغنيني بها عن رحمة من سواك".

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة