حب الوطن من دروس الهجرة النبوية

0 2830

حب الوطن فطرة في داخل الإنسان، ينبض به قلبه، ويجري به دمه، ولو كان الوطن كثبان رمل بصحراء، أو تعرض فيه للأذى والبلاء، وإن غادر الإنسان وطنه لضرورة يبقى الشوق والحنين إليه ساكنا في نفسه ووجدانه، فإنه المكان الذي ولد وتربى ونشأ فيه، فالوطن فيه ذكريات لا تنسى، فيه الأبناء والآباء والأجداد، والأهل والأحباب والأصحاب .
قال الغزالي: " والبشر يألفون أرضهم على ما بها، ولو كانت قفرا مستوحشا، وحب الوطن غريزة متأصلة في النفوس، تجعل الإنسان يستريح إلى البقاء فيه، ويحن إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هوجم، ويغضب له إذا انتقص " .
هذا الحب للوطن عبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - في بداية بعثته وحين هجرته، ففي بداية نزول الوحي عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بغار حراء ذهب مع زوجته خديجة - رضي الله عنها - إلى ورقة بن نوفل، وقص عليه ما حدث معه من أمر نزول جبريل عليه، وورقة يفسر له ذلك حتى قال: ( ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أو مخرجي هم؟!، قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ) رواه البخاري .
قال السفيري قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( أو مخرجي هم؟ ): " استفهام إنكاري على وجه التفجع والتألم، كأنه استبعد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يخرجوه من حرم الله وجوار بيته، وبلدة أبيه إسماعيل من غير سبب، فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن منه فيما مضى ولا فيما سيأتي سبب يقتضي إخراجا، بل كانت منه المحاسن الظاهرات والكرامات المقتضية لإكرامه وإنزاله بأعلى الدرجات " .

وفي ليلة هجرته ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إلى المدينة، وعلى مشارف مكة وقف يودع أرضها وبيوتها، يستعيد المواقف والذكريات ـ ولو خالط هذه الذكريات الألم ـ مخاطبا لها بكلمات تكشف عن حب عميق، وتعلق كبير بديار الأهل والأصحاب، وموطن الصبا وبلوغ الشباب، وعلى أرضها بيت الله الحرام، قائلا: ( والله إني أعلم أنك خير أرض الله وأحبها إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت ) وفي رواية أخرى: ( ما أطيبك من بلد! وما أحبك إلي!، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك ) رواه الترمذي، وفي ذلك دلالة واضحة على حب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الشديد لبلده ووطنه مكة، كما تدل على شدة حزنه لمفارقته له، إلا أنه اضطر لذلك .
قال الذهبي معددا طائفة من محبوبات النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وكان يحب عائشة، ويحب أباها، ويحب أسامة، ويحب سبطيه، ويحب الحلواء والعسل، ويحب جبل أحد، ويحب وطنه ".
نعم كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحب وطنه، ويكره الخروج منه، وما خرج منه إلا بعد أن لاقى من أهله ـ المشركين ـ أصناف العذاب والأذى، فصبر لعله يجد من قومه استجابة لدينه ودعوته، لكنهم أبوا وظلوا على عنادهم وإيذائهم له ولأصحابه، فما كان منه إلا أن خرج حماية لدينه ودعوته وأصحابه، فدين الله أغلى وأعلى من الوطن والأهل والأولاد، قال الله تعالى -: { إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا }(التوبة الآية: 40) .

حب الصحابة لوطنهم :

كما كانت الهجرة من مكة إلى المدينة أمرا صعبا وشاقا على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقد كانت كذلك على أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ، وإن أصابهم فيها ما أصابهم من بلاء وعذاب، لأنها وطنهم الذي ولدوا وتربوا فيه، وعاشوا على أرضه

            بلادي وإن جارت علي عزيزة     وأهلي وإن ضنوا علي كرام

ولصعوبة الهجرة على الصحابة تدرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أمرهم بها، وإخبارهم بمكانها ووجهتها، فقد روى البخاري عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه: ( إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين - وهما الحرتان - فهاجر من هاجر قبل المدينة ) رواه البخاري .
قال ابن كثير: " فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع بعض من كان هاجر قبل الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر مهاجرا قبل المدينة، فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي،فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟، قال: نعم، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليصحبه ) رواه البخاري " .

وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: ( لما قدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى، وكان واديها يجري نجلا، فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم، وصرف الله ذلك عن نبيه، قالت: فكان أبو بكر وعامر بن فهيرة وبلال في بيت واحد فأصابتهم الحمى، فاستأذنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في عيادتهم فأذن، فدخلت إليهم أعودهم ـ وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب ـ، وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك (الحمى) فدنوت من أبي بكر فقلت: يا أبت كيف تجدك؟ فقال:

كل امرئ مصبح في أهله  والموت أدنى من شراك نعله

قالت: فقلت: والله ما يدري أبي ما يقول، ثم دنوت من عامر بن فهيرة فقلت: كيف تجدك يا عامر؟ فقال:

لقد وجدت الموت قبل ذوقه         إن الجبان حتفه من فوقه
كل امرئ مجاهد بطوقه   كالثور يحمي جلده بروقه

قالت: فقلت: والله ما يدري عامر ما يقول، قلت: وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى اضطجع بفناء البيت، ثم يرفع عقيرته (صوته) ويقول:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة     بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة       وهل يبدون لي شامة وطفيل

قالت: فأخبرت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك فقال: اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وانقل حماها إلى الجحفة، اللهم بارك لنا في مدها وصاعها ) رواه البخاري .
وكان بلال ـ رضي الله عنه ـ لشدة حزنه على تركه لوطنه ـ رغم ما حدث معه من تعذيب وإيذاء فيه ـ يقول: " اللهم العن شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء ".

علم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مدى حب أصحابه لوطنهم ـ مكة ـ، فكان يسأل الله كثيرا أن يرزقه هو وأصحابه حب المدينة حبا يفوق حبهم لمكة، لما لها من الفضل في احتضانها للإسلام ودعوته، وحمايتها ونصرتها للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه، فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد ) رواه البخاري، وعن أنس - رضي الله عنه - عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة ) رواه البخاري، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ( اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه ) رواه مسلم .
واستجاب الله دعاء نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعوفي المسلمون بعدها من هذه الحمى، وأصبحت المدينة المنورة موطنا محببا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولكل المهاجرين إليها من المسلمين، على تنوع بيئاتهم ومواطنهم، فرغم حب الصحابة لمكة، إلا أنهم آثروا دين الله - عز وجل ـ على حبهم لوطنهم، فهاجر من هاجر منهم إلى الحبشة، ثم هاجروا جميعا إلى المدينة المنورة، تاركين وطنهم حفاظا على دينهم، ورغبة في نشره بين الناس، ولذلك وصفهم الله ـ عز وجل ـ بالمهاجرين، وجعل هذا الوصف مدحا لهم يعلي قدرهم، ويبين فضلهم إلى يوم القيامة، فقال ـ تعالى ـ: { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون }(الحشر الآية: 8 ) .

إن حب المسلم لوطنه، وتمني الخير والعمل على تحصيله له من دروس الهجرة النبوية، وليس من العصبية أن يحب المسلم وطنه، لكنه لا يعني التعصب لبلد دون بلد، أو لجنس دون جنس، أو تقسيم الأمة إلى دول وطوائف متباغضة ومتنافرة، بل ـ حب الوطن ـ يعني: الأخوة والحب، والتعاون والنصرة بين المسلم وجميع المسلمين في جميع البلاد والأقطار، قال الله تعالى: { إنما المؤمنون إخوة }(الحجرات من الآية:10)، وقال ـ صلى الله عليه وسلم -: ( مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) رواه مسلم، وقال: ( المسلم أخو المسلم ) رواه البخاري، وقال: ( المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم ) رواه أحمد .

         أنا الحجاز أنا نجــد أنا يمن           أنا الجنوب بها دمعي وأشجــاني
         بالشام أهلي وبغداد الهوى            وأنا بالرقمتين وبالفسطاط جيــراني
        وفي ربى مكة تـاريخ ملحمــة        عــلى ثراها بنينا العالم الفانـي
        دفنت في طيبة روحي ووالهفي في   روضة المصطفى عمري ورضواني
        النيل مائي ومن عمان تذكرتـي        وفي الجــزائر آمالي وتطــواني
       دمي تصبب في كابول منسكبا          ودمعتي سفحت في سفـح لبنــان
        فأينما ذكر اسم الله في بلد عددت      ذاك الحمى من صلب أوطــاني
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة