هدى وذكرى لأولي الألباب

0 1141
  • اسم الكاتب:د. حسام الدين حامد-منتدى التوحيد

  • التصنيف:تعزيز اليقين

لا تزال الذكرى تختلج في نفسه ..
حين ترك عقله يوم اعتناقه ملته الباطلة!! إذ كان ذلك لازما للسكوت عما سيقابله من محالات!! فكيف يقبل نسبة أفعال يستحي البشر من إتيانها إلى "إلهه" الذي يعبده؟! وقد أخبروه بضرورة الإيمان بهذه النسبة وإن "توهم" في ظاهرها انتقاصا "للإله"!! هكذا أخبروه وهكذا سكت طالبا "الخلاص" المزعوم!! وحين سألهم عن النصوص وما فيها من قبيح اللفظ ووضيع المعنى، أجابوه بأن لهذه النصوص باطنا، وهذا الباطن لا يعلم إلا من طريقهم!! فإن استغرب الطقوس التي ألزموه بها كالاعتراف للبشر بذنبه، وأكل لحم الإله وشرب دمه؛ حز هذا الاستغراب في نفسه إذ هو – كما حدثوه – علامة على نقصان إيمانه!!

حتى أتى عليه حين عز عليه أن يلغي عقله وهو الرجل الرشيد!! واعتمل الأمر في نفسه وتأجج الصراع شديدا حتى انكسر الصنم!! وقرر أن يخلص نفسه من تلابيب هذه الملة الباطلة!! ثم بحث مخلصا حتى وجد الخلاص الحقيقي في الدين الحق؛ فحدثنا – سعيدا - أنه:

وجد عقائد الإسلام "مما يسع الأمي تعقلها، ليسعه الدخول تحت حكمها) فهي "من القرب للفهم، والسهولة على العقل، بحيث يشترك فيها الجمهور، من كان منهم ثاقب الفكر أو بليدا"(1)، وبعد هذا الاشتراك في الأصل يتميز الناس، "فليس من له مزيد في فهم الشريعة كمن لا مزيد له، لكن الجميع جار على أمر مشترك"(2)، فهي شريعة مهما سبرت غورها وجدت أنها ليس فيها ما "يخالف القياس، ولا في المنقول عن الصحابة الذي لا يعلم لهم فيه مخالف، وأن القياس الصحيح دائر مع أوامرها ونواهيها وجودا وعدما، كما أن المعقول الصحيح دائر مع أخبارها وجودا وعدما، فلم يخبر الله ولا رسوله بما يناقض صريح المعقول، ولم يشرع ما يناقض الميزان والعدل"(3).

وفي الوقت الذي وجد فيه الملل الباطلة تجد (خلاصها) في إلغاء الإنسان عقله، ويسعى سدنتها وأحبارها إلى خديعة الأتباع عن عقولهم، فقد وجد الإسلام على العكس من ذلك، فإن "اشتراط العقل في التكليف لا خلاف فيه بين العلماء، إذ لا معنى لتكليف من لا يفهم الخطاب"(4)، و"من أجل ذلك وحفاظا على هذا العقل، وحتى لا ينحرف، وحتى لا يضل، وحتى يبقى قائما بوظيفته التي خلقه الله سبحانه وتعالى من أجلها : حرم الله كل ما يضر بهذا العقل، وكل ما يعطل فاعلية هذا العقل، فحرم الله المسكرات والمخدرات وكل مادة يدخلها الإنسان في جوفه – مطعوما كانت أو مشروبا – حرمها الله إذا كانت تخامر العقل وتضر به"(5).

ولذلك نرى في كتاب الله تعالى البراهين العقلية التي لا يماري أحد في صحتها، مع عرض ذلك بأسلوب بليغ يسير لا يستطيع أحد معارضته، فأقام سبحانه برهانا على افتقار العالمين لربهم بقوله: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون*أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون} (الطور: 3 – 36) ، وأقام عز وجل برهانا على وحدانيته بقوله: {قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا} (الإسراء : 42)، وقوله: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون}( الأنبياء : 22)، وأقام تعالى برهانا على صدق نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين} (البقرة : 23) وقال سبحانه: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} (النساء: 82)، والأمر أكبر من استقصائه هاهنا..

ومن تمام عرض البراهين العقلية أن تزال الموانع أمام قبولها، فنجد في آيات كثيرة من كتاب الله تعالى مذمة من لا يعقلون، فيحثهم –تعالى- على السير في الأرض والنظر في الآيات بقوله: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} (الحج : 46)، ويبين تعالى الدرك الأسفل الذي يصل إليه من يلغي عقله بقوله: {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون} (الأنفال: 22)، ويقول تعالى فيمن كابر في اتباع ما عرفه: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين} (النمل: 14)، وغير ذلك كثير في كتاب الله تعالى.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "العقل شرط في معرفة العلوم، وكمال وصلاح الأعمال، وبه يكمل العلم والعمل، لكنه ليس مستقلا بذلك، لكنه غريزة في النفس، وقوة فيها، بمنزلة قوة البصر التي في العين، فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار. وإن انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها، وإن عزل بالكلية : كانت الأقوال والأفعال مع عدمه أمورا حيوانية، قد يكون فيها محبة ووجد وذوق، كما قد يحصل للبهيمة. فالأحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة، والأقوال المخالفة للعقل باطلة، والرسل جاءت بما يعجز العقل عن دركه، لم تأت بما يعلم بالعقل امتناعه"(6).

فنعم ذلك قولا ! وما أقبح شبهة تثار !! يسعى من يثيرها - بخبث أو حمق - إلى التسوية بين ما أتى في الإسلام من أمور يعجز العقل عن تصورها لطبيعة في العقل ذاته، و أمور أتت في الملل الباطلة يأبى العقل تصورها لكون هذه الأمور محالة في نفسها، وشتان بين الأمرين!!

فإن "الشرع يأتي بمحارات العقول، وهو لا يأتي أبدا بمحالات العقول"(7)، فمحالات العقول باطلة في نفسها، لا يمكن قبولها، كالجمع بين النقيضين، والقول بأن الثلاثة يكونون واحدا من جنسهم نفسه، والقول بتسلسل العلل، والقول بالدور القبلي، والقول بحوادث لا سبب لها، وغيرها من أمور محالة يعتقدها أهل الإلحاد والضلال والزيغ، أما محارات العقول فهي أمور ليست من المحال في شيء، ولكنها "أمور غيبية لا يدركها العقل، ولا مجال له فيها، وإنما الواجب فيها الانقياد للشرع، وتصديقه فيما أخبر به من غيبيات"(8)، والقول بحدود يقف عندها العقل هو من مقتضى العقل الصحيح، فما لا يدركه عقل الإنسان وتصوره "إدراك ماهية وحقيقة، أو إدراك علية أو كيفية، لا يتعذر عليه التسليم به في طمأنينة، لأنه داخل في مفهوم منطقه المعقول، منطقه الذي يسلم بالحقيقة البسيطة : حقيقة أن المجال الذي يتناوله هذا التصور أكبر وأوسع من الكينونة الإنسانية بجملتها"(9).

فالتصور له حدود يقف عندها، فلا عمل له في محارات العقول، فالعقل شهد "للنبوة بالتصديق ولنفسه بالعجز عن درك ما يدرك بعين النبوة، وأخذ بأيدينا وسلمنا إليها تسليم العميان إلى القائدين، وتسليم المرضى المتحيرين إلى الأطباء المشفقين، فإلى هاهنا مجرى العقل ومخطاه، وهو معزول عما بعد ذلك، إلا عن تفهم ما يلقيه الطبيب إليه"(10).

فهيهات هيهات أن تكون منزلة العقل في الإسلام كمنزلته في الملل الباطلة، فالإسلام أتى بما قرب من الفهم وسهل على العقل، مع اعتبار تفاوت الناس في الذكاء والبحث، ولم تأت الشريعة إلا بما يوافق العقل الصحيح وما أتت أبدا بمحالات العقول، بل أتت ببراهين وأدلة عقلية يسلم العقل لها تسليما، وأتت بتحريم كل ما يخامر العقل ويضره، إذ العقل في ديننا مناط التكليف، والعقل يسلم بأن له حدودا لا يتمكن من الخوض فيما وراءها، وليس له حينها إلا توفير جهده عن التبديد فيما ليس من شأنه، وهكذا فإنه :

"ما من دين احتفل بالإدراك البشري وإيقاظه، وتقويم منهجه في النظر واستجاشته للعمل، وإطلاقه من قيود الوهم والخرافة، وتحريره من قيود الكهانة والأسرار المحظورة، وصيانته في الوقت ذاته من التبديد في غير مجاله، ومن الخبط في التيه بلا دليل .. ما من دين فعل ذلك كما فعله الإسلام .. وما من دين وجه النظر إلى سنن الله في الأنفس والآفاق، وإلى طبيعة هذا الكون وطبيعة هذا الإنسان، وإلى طاقاته المذخورة وخصائصه الإيجابية، وإلى سنن الله في الحياة البشرية معروضة في سجل التاريخ .. ما من دين وسع على الإدراك في هذا كله كما وسع الإسلام"(11).

 

هوامش المقال :
(1) الموافقات في أصول الشريعة، للشاطبي، (2 /74).
(2) السابق (2/ 77).
(3) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (3/ 273).
(4) مذكرة في أصول الفقه، للشنقيطي، ص 36.
(5) العقل ومنزلته في الإسلام، محمد موسى آل نصر، ص 16.
(6) سورة مجموع الفتاوى، (3/ 339).
(7) أسئلة وأجوبة حول السلفية، د. علاء بكر، ص 53.
(8) السابق، ص 55.
(9) خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، سيد قطب، ص 48 مختصرا.
(10) المنقذ من الضلال، منسوب لأبي حامد الغزالي، ص 40.
(11) خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، ص 52.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة