الرحلة عبر الزمن..تحت مجهر المعتقد!

0 4460

حلم لذيذ، وفكرة داعبت الخيال البشري، كانت بحق: منبعا للكثير من القصص والروايات، والحوارات والندوات، وسببا لإخراج عدد هائل من المنتجات الإعلامية التي كان محورها وقطب رحاها: فكرة السفر عبر الزمن.

والصورة النمطية لهذه الفكرة: أناس يركبون مركبة فضائية خاصة تسمى: (آلة الزمن!) يعبثون بعدد من الأزرار، فإذا بهم ينتقلون إلى حضارات مستقبلية بكل تطورها وحداثتها، ثم يعبثون مرة أخرى ليغوصوا في الزمن الماضي، حيث لا حضارة ولا تطور، ولم تزل هذه الفكرة الخيالية هي الصورة السائدة في أدبيات المنتجات الدرامية الفنية حتى يومنا هذا.

أصل الفكرة ومنشؤه

أصل هذه الفكرة جاءت عبر العالم الفيزيائي الشهير ألبرت أينشتاين Albert Einstein وولدت من رحم نظريته الشهيرة: النظرية النسبية الخاصة، وتتضح فكرة السفر عبر الزمن من خلال ما اصطلح عليه علماء الفيزياء بمعضلة التوأم الشهيرة twin paradox، فما هي هذه المعضلة؟ وما علاقتها بالفكرة؟

تفترض هذه المعضلة وجود أخوين توأمين، لهما ذات العمر وليكن ثلاثين عاما، سنتخيل أن التوأم (ب) قرر السفر نحو الفضاء بمركبة خيالية تنطلق بسرعة هائلة تقارب سرعة الضوء، بينما يبقى التوأم (أ) على الأرض، التوأم (ب) انطلق بسرعة تقترب من سرعة الضوء مدة عام كامل في الذهاب ومثلها في العودة، ليعود بعدها إلى النقطة التي انطلق منها، ويبرز السؤال المتعلق بالأخوين جميعا: كم سيكون عمرهما في لحظة اللقاء؟

الأمر واضح تماما بالنسبة للأخ المسافر، فإنه استغرق عامين كاملين في رحلته الخيالية، وهذا يجعل من عمره اثنان وثلاثون عاما، لكن ماذا عن التوأم (أ) والذي بقي ثابتا على سطح الأرض؟

الحال أن الزمن يتباطأ بزيادة السرعة بالنسبة للتوأم (ب)، بحيث أن شعور هذا التوأم بالزمن سيقل بمقدار 10 أضعاف –على سبيل المثال- لما يشعر به التوأم (أ) على الأرض، بحيث أن العشرة أيام التي يقضيها في الفضاء تعادل يوما واحدا فقط من أيام التوأم (ب)، وبالعكس: فإن يوما واحدا من أيام التوأم على الأرض تعادل عشرة أيام من أيام التوأم في الفضاء، وبالنتيجة: سيصل التوأم (ب) إلى الأرض وعمره اثنان وثلاثون عاما، ليجد أخاه وعمره خمسون عاما!.

وبموجب هذه المفارقة الشعورية للزمن بين الأجسام المختلفة تبعا للتباين الحاصل في السرعة بينهما عند الاقتراب من سرعة الضوء، ستساعد هذه النسبية في تفاوت الحاجز الزمني –بحسب زعم من يناصر فكرة السفر الخيالية-، وهذا هو الأصل الأول لفكرة الانتقال عبر الزمن.

ثم نأتي إلى الأصل الثاني للفكرة: وهو ما يسمى بالانتقال خلال أحد الثقوب الدودية wormhole عبر نسيج الزمكان، ويقصدون به وجود نسيج حقيقي في الكون يتداخل فيه البعد الزماني مع الأبعاد المكانية الثلاثة: الطول والعرض والارتفاع x y z، ومن استطاع دخول هذا الثقب، أمكنه أن يسافر عبر الزمن إلى الأمام أو إلى الخلف!، نحو المستقبل مهما كان بعيدا، أو في الماضي وإن كان سحيقا، ومن لوازم هذه الفرضية أن يصبح للزمان وجود مادي نستطيع أن ندركه بأبصارنا وأسماعنا وبقية حواسنا، وليس مجرد الشعور بالزمن وبانقضائه!.

دوافع رواج فكرة السفر عبر الزمن

مما يذكر في هذا المقام: أن من دوافع رواج فكرة السفر عبر الزمن، الدافع النفساني الذي لا يمكن إغفاله، فالبعض يمر بمعضلات ومشكلات وويلات في حياته، فيتمنى لو لم يحدث له ذلك، أو أنه يتجرع كأسا مريرة صنعتها قراراته الخاطئة، واختياراته غير الموفقة، فيقول في نفسه: "لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا"، ثم توافق فكرة السفر عبر الزمن لتغيير ذلك كله هوى في نفسه، باعتبار أنها فرصة حقيقية لتصحيح المسار –في الماضي-، وتغيير ما كان قد ندم على فعله في السابق!.

أما في المستقبل: فنشوة معرفة ما تؤول إليه الحضارة الإنسانية في مستقبل الأيام، وكيف سيكون حال الأمم والشعوب والمخترعات، وخارطة العالم كيف ستكون؟ وماذا عن جغرافيته؟ إلى غيرها من الأسئلة الحالمة التي دفعت شركات الإنتاج السينيمائي دفعا إلى تغذية هذه الحاجة الشعورية بالعديد من الأفلام الخيالية والمسلسلات المستمرة.

ولا يخفى على القاريء ما هو حاصل في هذه الدوافع من منابذة للمنهج الإسلامي الذي يدعونا إلى مواجهة المشاكل بقوة وثبات: {واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور} (لقمان:17)، لا الهروب من الواقع إلى الخيال أو تغييب العقل بما لا يفيد، ولنا في كلام رسول الله –صلى الله عليه وسلم- خير واعظ للنفس إذ يقول: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان) رواه مسلم.

ولن نغوص أكثر في التعريف بالجذور التاريخية لنشوء هذه الفكرة وتطورها، والتنويه بمناصريها من علماء الطبيعة؛ لارتباط هذه المسألة بالعديد من المعادلات الرياضية والتصورات الفيزيائية التي يصعب بالفعل تصورها تصورا دقيقا لغير المتخصصين في فلسفة الفيزياء.

سنعرض عن هذا كله، ونتجه صوب المسألة الأهم والأعظم، ألا وهي: كيف يمكن النظر إلى هذه المسألة من نافذة العقيدة؟ وهل تحتوي هذه الفرضية على ما يتناقض مع عقيدة المسلم؟ سواء في تفاصيلها أو بنيتها المعرفية؟

حقائق شرعية لابد من استحضارها

حتى نعرف الجواب على الأسئلة السابقة علينا أن نتذكر سادس أركان الإسلام، وهو الإيمان بالقضاء والقدر، فنستحضر النصوص الشرعية التي تبين حقيقة الإيمان بهذا الركن، ومن ذلك:
-أن نفسا لن تموت حتى تأخذ رزقها كاملا غير منقوص، كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها) رواه البغوي في شرح السنة، والبيهقي في شعب الإيمان، وروح القدس: جبريل عليه السلام، ونفث في روعي: أوحى إلي ذلك.

-أن مؤمنا مهما كان، لن يعلم ما الذي سيكسبه في المستقبل على وجه اليقين، وكذا لن يعلم أي أرض ستشهد موته، قال جل جلاله: {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير} (لقمان:34)، ونستصحب معها حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي -صلي الله عليه وسلم - قال: (مفاتيح الغيب خمس، لا يعلمهن إلا الله: ...-وذكر منها- وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت) رواه مالك في الموطأ وأحمد في المسند.

-أن الله سبحانه هو المطلع على الغيب وحده، فلا يعلم ما هو كائن على وجه اليقين إلا الباري سبحانه، وقد قامت البراهين المتكاثرة الدالة على تفرد الرب سبحانه وتعالى بعلم الغيب: {قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله} (النمل:65)، {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا* إلا من ارتضى من رسول} (الجن:26-27)، {ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون} (الأعراف:188).

- أن معنى القدر شرعا: هو تقدير الله عز وجل الأشياء في القدم ، وعلمه سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده، وصفات مخصوصة، وكتابته - سبحانه - لذلك ، ومشيئته له، ووقوعها على حسب ما قدرها وخلقه لها .

-أن مراتب القدر أربعة:
المرتبة الأولى : العلم، والمراد به علم الله الأزلي بما كان وما يكون ، وبما لم يكن لو كان كيف يكون ,وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ، فلا تخفى عليه خافية ، قال تعالى : {إن الله بكل شيء عليم } (التوبة: من الآية115) .

المرتبة الثانية : الكتابة، والمقصود بها الإيمان أن الله كتب مقادير الخلائق كلها في كتاب عنده ، قال تعالى: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون} (الأنعام:38) ، وجاء في الحديث قوله -صلى الله عليه وسلم- : (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ) رواه مسلم.

المرتبة الثالثة: الإيمان بمشيئته سبحانه ، وأن كل ما يجري في الكون إنما هو بإرادته عز وجل، لا يخرج شيء عنها، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، قال تعالى: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين} (التكوير:29).

المرتبة الرابعة: الإيمان بأن كل ما في الكون، هو من خلق الله عز وجل وتكوينه، قال تعالى: {الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل} (الزمر:62).

نقد مسألة السفر عبر الزمن من منظور شرعي

والآن يأتي السؤال المحوري: كيف يمكن نقد مسألة السفر عبر الزمن إلى الماضي أو المستقبل من خلال المرتكزات العقدية السابقة؟ وجواب ذلك كالآتي:

السفر عبر الزمن يتناقض مع الإيمان باستيفاء النفس لرزقها

من لوازم القول بالسفر عبر الزمن، أن يؤمن قائلها بالإمكان العقلي أن تموت نفس قبل أن تستوفي رزقها، أو أن تموت نفس فتأخذ فوق ما كان مكتوبا لها حتى الممات، ويمكن توضيح ذلك بافتراض أن أحدا سافر إلى الماضي فنزع كوب ماء من شخص كتب عليه الموت في الماضي، وقبل موته أتم شرب ذلك الكأس ثم سقطت عليه قذيفة أودت بحياته، فجائز من خلال مسألة السفر أن يقوم المسافر المستقبلي بانتزاع ذلك الكأس –والذي من المفترض أن يشرب- قبل سقوط القذيفة، وهذا يتضاد صراحة مع الإيمان بلزوم استيفاء النفس لرزقها.

وبالمثل يقال: بإمكان ذلك المسافر أن يعطي فقيرا قبل موته مالا قبل موت الفقير بسكتة قلبية، فكيف يتوهم إمكان ذلك وعدم استشكاله من منظور عقدي؟

السفر عبر الزمن يتناقض مع قوله تعالى: {وما تدري نفس ماذا تكسب غدا}

الإيمان بعدم إمكان معرفة ما هو مكتوب من الرزق في المستقبل، وذلك بتصور إمكان سفر شخص في المستقبل، ثم قراءة أو الاطلاع على ما كان مكتوبا من رزق لنفسه أو لغيره في تلك الحقبة الزمنية التي انطلق منها، باعتبار أن ذلك المقروء بالنسبة إلى زمن الوصول المستقبلي: إنما هو تاريخ وماض قد انتهى!، فلو سافر الرجل ألف سنة إلى الأمام، لكان تاريخ سفره في محطة الوصول يرجع إلى الماضي ألف سنة، وبالتالي فهو تاريخ يمكن الاطلاع عليه، وهذا محال شرعا، مناقض لمفهوم الآية التي تبت وتقطع كل أمل بإمكان معرفة ذلك، والأمر بطبيعة الحال أشمل من مجرد معرفة الرزق، لأن الكسب البشري يطلق على العباد، فكل ما عملوه هو من كسب أيديهم، كما يقول الزمخشري: " وما تدري نفس برة أو فاجرة ماذا تكسب غدا من خير أو شر، وربما كانت عازمة على خير فعملت شرا، وعازمة على شر فعملت خيرا".

السفر عبر الزمن يتناقض مع قوله تعالى: {وما تدري نفس بأي أرض تموت}

وتتضح هذه المسألة بتخيل مسافر عبر الزمن ذهب إلى المستقبل، ثم هو اختار أن يقرأ في سجلات الوفاة ويبحث فيها عن تاريخ موته الذي هو بالنسبة لزمن المستقبل: (ماض قد انقضى)، وبذلك يتمكن هذا المسافر من معرفة ما قد أخبر الله تعالى باستحالة معرفته لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، فكيف يمكن تصور قدرة بشر غير متصل بالسماء والوحي، القدرة على معرفة ذلك؟ الأمر مرفوض ولا يمكن قبوله.

السفر عبر الزمن يتناقض مع مفهوم كتابة القدر

حتى يتضح وجه المناقضة ينبغي استحضار مسألة الكتابة على صورتها التامة، وهي أن الله تعالى قد كتب كل شيء وقدره قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة كما في حديث القلم، وهي المذكورة في قوله سبحانه: {وعنده أم الكتاب} (الرعد:59)، وهو ما في اللوح المحفوظ، وإذا أردنا أن نمثل لما هو مكتوب في اللوح المحفوظ تمثيلا حسيا، فيمكننا أن نعبر عنه بوجود شريط الأفلام، كل لقطة منه تحوي أحداثا بعينها لا يمكن أن تتغير؛ لأن هذا الثبات من مقتضيات ومعاني حفظ (أم الكتاب)، والقول بإمكان السفر عبر الزمن إلى الماضي يقتضي تغيير أحداث هذه (اللقطة)، وهذا ما لا يمكن حدوثه بطبيعة الحال.

ويمكننا أن نضرب وجها آخر سيتضح به وجه التناقض، إذا افترضنا أن الله تبارك وتعالى قد كتب على الأعشاب في اللحظة (س) أن تكون مستقيمة، لعدم وجود رياح أو مؤثر عليها يسبب انحنائها كقيام أحدهم بالمشي عليها أو وضع شيء ثقيل عليها، ثم أتاها رجل المستقبل ليمشي في اللحظة ذاتها على ذلك العشب، فقوانين وسنن الكون تستلزم انثناء ذلك العشب تحت حذاء المسافر نتيجة طبيعية للثقل الحاصل عليها، بينما نحن نعلم أن الله قد كتب في اللوح المحفوظ عن اللحظة (س) ألا ينثني العشب فيها، فإذا انثنى أبطلنا مفهوم ثبات القدر المكتوب في اللوح المحفوظ.

السفر عبر الزمن يتنافى مع الإعجاز الغيبي

فكرة السفر عبر الزمن تعود إلى الإعجاز الغيبي بالإبطال؛ لأن القادم من المستقبل بإمكانه أن يخبر عن الأمور المستقبلية الغيبية (والتي هي بالنسبة له من عالم الشهادة)، فلا يكون في إخبار الرسل عليهم السلام مزية أو خصيصة خرجوا بها عن المألوف، بحيث اعتبر ما أخبروا به من المستقبل إعجازا يدل على نبوتهم، كيف وقد قال الله: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا* إلا من ارتضى من رسول} (الجن:26-27).

ولعل تأملا أكثر في نصوص العقيدة سيعيننا على إيجاد أوجه أكثر للتناقض بين فكرة السفر عبر الزمن ومفهوم القضاء والقدر، وحتى إن تأملنا في معاني أسماء الله وصفاته ستفتح لنا آفاقا أخرى تؤكد بطلانه واستحالته، ولأجل أن نزيد الأمر وضوحا وأن نعزز الرؤية الشرعية الرافضة لهذه الفكرة، يحسن بنا أن نذكر أوجها أخرى، تم التوصل إليها بالنظر العقلي والمنطق العلمي، نقتصر منها على الآتي:

نقد السفر عبر الزمن من منظور عقلي وعلمي

أولا: القول بإمكان السفر عبر الزمن، يقتضي إمكان حدوث الشيء ونقيضه في ذات اللحظة الزمنية، وذلك في مثال (العشب) الذي ذكرناه قبل قليل، فإننا نفترض أنه كان في اللحظة (س) شامخا قائما، وهو كذلك في نفس الوقت: ينثني تحت وطأة الحذاء، ومثال آخر: أن يكون الكائن الحي في لحظة ما: حي يتنفس، وهو كذلك: ميت برصاصة أطلقت من المسافر القادم من المستقبل، فالواقع أن الموت والحياة نقيضان لا يمكن اجتماعهما في ذات واحدة، وفي زمان واحد، ومن جهة واحدة ،هذا محال عقلي يبطل الفكرة من أساسها.

ثانيا: من المحال العلمي أن يستطيع الإنسان التواجد في الزمن الماضي، وذلك لسبب بسيط، وهو أنه في اللحظة الماضية (س) فإن الهواء (حسب ما هو مرسوم له قدرا) له حراك معين، وعليه: لا يمكن للهواء أن يغير اتجاهه لأنه ماض لا يمكن تغيير اتجاهه، وعليه: فإن تواجد أي ذات في تلك اللحظة في هذا الفراغ المملوء بالهواء مسبقا أمر لا يمكن أن يقع، ولو افترضنا وقوعه، فإن الأنف –بالنسبة لرجل المستقبل- لن تستطيع سحب الهواء لإجراء عملية التنفس، لأن ذلك سيحدث تغييرا لاتجاه الهواء بغير ما تم في الماضي، فضلا عن إخراج (ثاني أوكسيد الكربون) الناتج عن عملية التنفس والذي سيحدث خللا في التوازن الكوني، وهو الأمر الذي أطلق عليه العلماء وعبروا عنه بحماية التسلسل الزمني chronology protection of time.

وأيضا: فإن المسافر في هذه الحالة الخيالية، لو مشى على العشب لوجده حادا كالسكاكين، لأنه لم يوجد سبب في الماضي يجبر العشب على الانثناء، كذلك لن يستطيع هذا المسافر تناول أي شيء أو الإمساك به، واجتماع هذه العوامل تؤكد استحالة تواجد شخص في الماضي، مما ينفي هذه الفكرة تماما.

ثالثا: وهذا الرد قدمه العالم الفيزيائي الملحد المعاصر ستيفن هاوكنج Stephen Hawking حيث اعتبر أن مجرد تصور إمكان السفر أحجية فلسفية لا قيمة لها، ولو كان الأمر صحيحا لوجدنا أفواج المسافرين عبر الزمن من المستقبل أمامنا كل يوم!، فعدم وجود حالة واحدة واقعة يعود لأصل هذه الفكرة بالإبطال.

رابعا: وهذه النقطة لها علاقة بمسألة الثقب الدودي الذي ذكرت في بداية الموضوع، فإنها قائمة على فكرة تجسد الزمان والمكان في حيز واحد، بينما الواقع أن الزمان هو معنى مجرد في الذهن، وليس له (ذات) أو كيان أو وجود مادي خارج الذهن، حاله حال (السرعة) و الـ(فوق) و الـ(تحت)، فلا يمكن لأهل الفيزياء أن يأتوا لنا فيقولوا في يوم من الأيام: اكتشفنا كيان الـ(فوق) وأمكننا دراسة خصائص هذا الوجود المادي له فيزيائيا.

وفي ذلك يقول الدكتور أبو الفداء: " إن المعاني المجردة في الذهن التي تعبر عن علاقات الأشياء بعضها ببعض، لا يعقل أصلا أن تتحول إلى كيانات موجودة في الخارج –أي خارج الذهن- تماما كما ليس هناك شيء في الخارج اسمه: (فوق) وآخر اسمه (تحت)، بحيث نتطلع في يوم من الأيام أن ندرس الخصائص الفيزيائية للـ(فوق) والـ(تحت) ونخضعه للاختبار التجريبي، فكذلك يقال في كل من الفراغ والزمان، المعاني اللغوية المجردة لا وجود لها خارج الذهن، وإنما يوجد في الواقع ما تعبر عنه تلك المعاني من أعيان أو صفات أو أحوال وعلاقات، فليست تلك المعاني أعيانا في الخارج، ولا هي مقصورة على التعبير في لغة الإنسان عن أعيان في الواقع بالضرورة، فلا يعقل مثلا أن نتصور أن السرعة التي يتحرك بها جسم ما، يمكن أن نراها في الواقع في يوم من الأيام على هيئة أشرطة أو مسطحات فيزيائية أو نحو ذلك، كما نمثلها رياضيا بالخطوط على الورق، حتى إذا ما أمسكنا بتلك الأشرطة في الواقع مثلا أمكننا أن نتحكم في تلك الصفة للجسيم الموصوف بها!! فنحن من الأصل لا نستعمل كلمة سرعة للتعبير عن كيان أو عين واقعية، وإنما نصف بها حالا متغيرة".

خامسا: أن قبول فكرة السفر عبر الزمن –خصوصا للماضي- يسوغ فكرة قبول تأثير المسبب –المفعول به- في سببه –الفاعل-، كتأثير المقتول في قاتله، وهو عكس ما حصل في الواقع!، وهو ما يسمى عند علماء الطبيعة المتأثرين بهذه الفكرة: انعكاس السببية Backward Causation ، وهذه القضية خلاف نواميس الكون وقلب لها، فكيف يصبح المفعول به فاعلا، وكلاهما قد انقضى وانتهى؟

سادسا: للرد على مسألة تباطؤ الزمان Time Dilation التي ذكرها أينشتاين وبيناها أول الموضوع، فالإشكال من ناحية استحالة حدوث ذلك عمليا لأن الجسم إذا انطلق بهذه السرعة الفائقة فسوف يتحول إلى طاقة، وتتناثر ذراته عبر الكون، أما الربط بينها وبين معضلة التوأم twin paradox فهو خطأ فادح أريد به الترويج الإعلامي عند العوام؛ لأن التوأم المسافر بسرعة تقترب من سرعة الضوء لو افترضنا أنه قرر أن يعود إلى الأرض فستتغير سرعته واتجاهه، فلن تنطبق عليه معادلات النسبية الخاصة، وهذا يوضح خطأ فكرة معضلة التوأم من الأساس علميا ورياضيا.

ومنها: إذا أمكن تصور تباطؤ الزمن بالنسبة لطرفي التجربة، فالواقع أن الجميع يشترك في لحظة واحدة اسمها (الآن) وهي مقياس واحد للمسافر نحو السماء، وللثابت في الأرض، ولنا نحن الذين نرصد هذه التجربة الخيالية، وبالتالي: لا يصح أن يعقل أن جسما ما في الفضاء البعيد هو (الآن!) واقع في المستقبل أو الماضي بالنسبة لنا، فهذا تناقض لغوي ومنطقي صارخ، وهو هدم فعلي لمعنى كلمة: (الآن)! لا يحتاج العاقل أن يكون فيلسوفا حتى يدرك حقيقة تناقضها.

سابعا: ثمة مثال شهير يطرح في مسألة السفر عبر الزمن، يسمى: مفارقة الجد grandfather paradox، وخلاصتها: ماذا لو سافر الحفيد إلى الماضي فقتل جده؟ ما الذي سيحدث؟ يشرح د.ميشيو كاكو العالم المتخصص في مجاله، فيبين أن الحفيد اليوم لو امتلك التقنية والطاقة الكافية للسفر إلى الماضي ليقتل جده، فإن قراره اليوم سيجعل (نهر الزمن) ينقسم إلى نهرين في الماضي!!: (نهر زمني) ينجو فيه الجد من الموت وفيه يولد الحفيد، ونهر مواز يموت فيه الجد ولن يولد الحفيد، أي أن الكون تناسخ في الماضي إلى نسختين بسبب حادثة ستحدث في المستقبل!، وهذا تناقض عقلي في غاية البطلان.

وأخيرا: فالأمر مربك ومحير، ولولا اشتهاره في الأدبيات والإعلام وفي الأوساط العلمية، ولولا مصادمته لصحيح المعتقد، ما فصلنا كثيرا في الموضوع لصعوبة إدراك جميع تفاصيله، ونحيل القارئ الراغب في الاستزادة أن يرجع إلى كتاب: "آلة الموحدين لكشف خرافات الطبيعيين" للدكتور أبو الفداء بن مسعود، ومحاضرات الدكتور الفيزيائي الكبير محمد باسل الطائي المرئية حول نقد خرافة السفر عبر الزمن، وبالله التوفيق.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة