التجاوب أمارة المحبة

0 1034

أسمى مراتب محبة الله تعالى أن يتفقد العبد أوامره سبحانه فيأتيها ومناهيه فيجافيها .. أن يتجاوب العبد مع نداءات الله تعالى له حين يناديه ويدعوه فيلبيه .. أن يأتي إليه بحب طمعا في جنته قبل الخوف من ناره .. أن يستجيب استجابة فريدة كاستجابة الرعيل الأول من السلف الصالح، حين دعاهم الله في أكثر من موقف فكان منهم أعاجيب لا تنم إلا على صدق المحبة: {ألا تحبون أن يغفر الله لكم} {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا} {فهل أنتم منتهون} {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق} .. نداءات خالدات وتصرفات نيرات نعيشها لحظات لعلها تجلو قسوة القلوب وتنير ظلمة العقول.

ألا تحبون أن يغفر الله لكم
قال تعالى: {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم} [النور:22]
قال ابن كثير: "وهذه الآية نزلت في الصديق، حين حلف ألا ينفع مسطح بن أثاثة بنافعة بعدما قال في عائشة ما قال [أي إبان حادثة الإفك].. فلما أنزل الله براءة أم المؤمنين عائشة، وطابت النفوس المؤمنة واستقرت، وتاب الله على من كان تكلم من المؤمنين في ذلك، وأقيم الحد على من أقيم عليه - شرع تبارك وتعالى، وله الفضل والمنة، يعطف الصديق على قريبه ونسيبه، وهو مسطح بن أثاثة، فإنه كان ابن خالة الصديق، وكان مسكينا لا مال له إلا ما ينفق عليه أبو بكر رضي الله عنه، وكان من المهاجرين في سبيل الله، وقد ولق ولقة تاب الله عليه منها، وضرب الحد عليها.

وكان الصديق، رضي الله عنه، معروفا بالمعروف، له الفضل والأيادي على الأقارب والأجانب. فلما نزلت هذه الآية إلى قوله: {ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم} أي: فإن الجزاء من جنس العمل، فكما تغفر عن المذنب إليك نغفر لك، وكما تصفح نصفح عنك. فعند ذلك قال الصديق: بلى، والله إنا نحب - يا ربنا - أن تغفر لنا. ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا، في مقابلة ما كان قال: والله لا أنفعه بنافعة أبدا، فلهذا كان الصديق هو الصديق رضي الله عنه وعن بنته".

وفي بعض الروايات أن الصديق رضي الله عنه أنفق عليه ضعف ما كان ينفق عليه من قبل.
{أولوا الفضل} أي في الدين، وهذه شهادة من الله جل جلاله لسيدنا الصديق؛ الذي ما طلعت شمس على رجل بعد نبي أفضل من أبي بكر، وهذا ما قاله بعض العلماء إنه أفضل الصحابة على الإطلاق.
{ألا تحبون أن يغفر الله لكم} خاطبه الله تعالى بصيغة الجمع تعظيما لشأنه وتكريما لقدره .. قال الإمام الفخر الرازي رحمه الله: فانظر إلى الشخص الذي كناه الله سبحانه وتعالى مع جلاله بصيغة الجمع، كيف يكون علو شأنه عند الله؟
إنه الإيمان الصادق الذي حول الإساءة إلى إحسان، والإعراض إلى رغبة عارمة في المغفرة، وهكذا يصنع الإيمان بالمرء من الأعاجيب التي يقف الإنسان أمامها مشدوها وتجاه أحداثها مبهورا.

القرض الحسن
قال تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم} [الحديد:11]
قال ابن كثير: "عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له} قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله، وإن الله ليريد منا القرض؟ قال: "نعم يا أبا الدحداح" قال: أرني يدك يا رسول الله، قال: فناوله يده، قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي، وله حائط فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها، قال: فجاء أبو الدحداح، فناداها: يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال: اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل.

وفي رواية أنها قالت له: ربح بيعك يا أبا الدحداح، ونقلت منه متاعها وصبيانها، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح" .. العذق: القنو من النخل، والعنقود من العنب، ورداح: ضخم، مخصب.
هكذا يكون رد الفعل، ويكون الرجال، ويكون الشوق إلى البذل في غير تردد ولا استجابة لرغبات النفس الطامحة للشح وإمساك المال .. هكذا كانوا، ولذلك أتت منهم الأعاجيب التي فتحوا بها قلاع الجبابرة وأملاك الأكاسرة والقياصرة، ونشروا التوحيد، وعبدوا الناس لرب الناس، فرضي الله عنهم أجمعين.

فهل أنتم منتهون
قال تعالى: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} [المائدة:91]
روي أنه لما نزل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} [النساء:43] قال عمر رضي الله عنه: "اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا"، فلما نزلت هذه الآية قال عمر: "انتهينا يا رب" وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- مناديه أن ينادي في سكك المدينة، ألا إن الخمر قد حرمت; فكسرت الدنان، وأريقت الخمر حتى جرت في سكك المدينة.
يقول الشيخ سفر الحوالي: "في أمريكا حرمت الخمر سنوات؛ ثم اضطرت أن تبيحها لما رأت انهماك الناس وإقبالهم عليها في المصانع وفي البيوت، فالدستور الأمريكي لم يتغير فيه إلا مادتين فقط مدة عمر هذا الدستور، هما: المادة التي حرمت الخمر، والمادة التي ألغت التحريم، وبقية الأمور ثابتة.

ومن الغرائب عن الشيوعيين - وهم الذين يتزعمون الجبهة الشرقية - ما جاء في كتاب ميخائيل جورباتشوف إعادة البناء يقول - فيما معنى كلامه-: إن الخمر فتكت بشبابنا، ونريد أن نقضي على مشكلة الخمور والإدمان، وقد بذلنا جهودا في ذلك، وقد اقترح البعض عدة تشريعات لمنع الخمر، وقد فكرنا في ذلك، ولكن هذا لا يجدي؛ لأنه ما إن فكر في اتخاذ هذا الإجراء حتى انتشرت صناعة الخمور الجوفية، فصنعوها في البيوت، إذا فلا فائدة من ذلك .. فالقضية ليست قضية وعي، ولا قضية ثقافة، ولا قضية أن الناس يرون شعارات براقة فيتركون ما حرم الله، إنما المسألة مسألة إيمان وقع في القلوب".

الخشوع لله
قال تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون} [الحديد:16]
عن ابن مسعود رضي الله عنه: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن .
وقيل: كثر المزاح في بعض شباب الصحابة فنزلت.
وعن أبي بكر رضي الله عنه: إن هذه الآية قرئت بين يديه، وعنده قوم من أهل اليمامة، فبكوا بكاء شديدا، فنظر إليهم فقال: هكذا كنا حتى قست قلوبنا.

وهذه الآية أيضا كانت سبب توبة الفضيل بن عياض .. يقول ابن عساكر في سبب توبته: كان الفضيل شاطرا، يقطع الطريق في مفازة، بين أبيورد ومرو؛ فربما كان ينتمي إلى أبيورد، وقيل كان يقطع على أبيورد وسرخس، وكان سبب توبته أنه عشق جارية، فبينما هو يرتقي الجدران إليها سمع قارئا يتلو {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق} [الحديد16]، فقال: يا رب قد آن؛ فرجع فآواه الليل إلى خربة، فإذا فيها رفقة سابلة، فقال بعضهم لبعض: نرحل الليلة، وقال قوم: بل نبقى هنا حتى نصبح؛ فإن فضيلا على الطريق يقطع علينا، ولما كان الله سبحانه قد أراد هدايته {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} فقد تاب الفضيل وأمنهم، وجاور الحرم حتى مات. وقيل إنه قال: ففكرت وقلت: أنا أسعى بالليل في المعاصي، وقوم من المسلمين ها هنا يخافونني، وما أرى الذي ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم إنني قد تبت إليك وجعلت توبتي مجاورة بيتك.

وقال عنه إبراهيم بن الأشعث: ما رأيت أحدا كان خوف الله في صدره أعظم من الفضيل، كان إذا ذكر الله أو ذكر عنده أو سمع القرآن ظهر به من الخوف والحزن وفاضت عيناه وبكى حتى يرحمه من يحضره، وكان دائم الحزن شديد الفكرة، ما رأيت يريد إلا الله بعلمه وعمله، وأخذه وعطائه، ومنعه وبذله، وبغضه وحبه، وخصاله كلها غيره، كنا إذا خرجنا معه في جنازة لا يزال يعظ ويذكر ويبكي، كأنه مودع أصحابه، ذاهب إلى الآخرة، حتى يبلغ المقابر، فيجلس مكانه بين الموتى من الحزن والبكاء، حتى يقوم وكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة