وقفة مع بيعة العقبة الثانية

0 2890

في العام الثاني عشر من البعثة النبوية جاءت وفود من قبيلتي الأوس والخزرج من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة وبايعوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بيعة سميت ببيعة العقبة الأولى، وأرسل معهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مصعب بن عمير ـ رضي الله عنه ـ ليعلمهم القرأن الكريم والإسلام، وبدأ الإسلام ينتشر في المدينة .
وفي العام الثالث عشر وفي الوقت الذي اطمأن المسلمون المهاجرون بين إخوانهم الأنصار في المدينة المنورة، وبقاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مكة يلاقي عنت قريش وأذاها، قدم وفد من الأنصار في موسم الحج فبايعوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيعة العقبة الثانية، والتي تعرف في السيرة النبوية ببيعة العقبة الكبرى .

وممن حضر هذه البيعة جابر بن عبد الله الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ الذي يحدثنا عن هذه البيعة فيقول: ( مكث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمكة عشر سنين، يتبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة، وفي المواسم بمنى، يقول: من يؤويني، من ينصرني، حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة؟، حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر فيأتيه قومه فيقولون: احذر غلام قريش، لا يفتنك، ويمشي بين رحالهم، وهم يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله إليه من يثرب، فآويناه، وصدقناه، فيخرج الرجل منا، فيؤمن به، ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام، ثم ائتمروا جميعا، فقلنا: حتى متى نترك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يطرد في جبال مكة ويخاف؟، فرحل إليه منا سبعون رجلا، حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عليه من رجل ورجلين حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله! علام نبايعك؟، قال: على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة، قال: فقمنا إليه، فبايعناه، وأخذ بيده ابن زرارة ـ وهو من أصغرهم ـ فقال: رويدا يا أهل يثرب! فإنا لم نضرب أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم جيينة، فبينوا ذلك، فهو عذر لكم عند الله، قالوا: أمط عنا يا سعد! فوالله لا ندع هذه البيعة أبدا، ولا نسلبها أبدا، قال: فقمنا إليه، فبايعناه، فأخذ علينا وشرط، ويعطينا على ذلك الجنة ) رواه أحمد .
ويحدثنا كذلك كعب بن مالك الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ الذي حضر هذه البيعة المباركة، وهذا اللقاء التاريخي الذي حول مجرى الصراع بين الإسلام والكفر، فيقول: ( خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالعقبة من أوسط أيام التشريق، فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلا، وامرأتان من نسائنا، فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى جاءنا، ومعه عمه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له، وكان أول متكلم، فقال: يا معشر الخزرج إن محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده .
قال كعب: فقلنا له : قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت، قال: فتكلم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فتلا القرآن، ودعا إلى الله ورغب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم، قال فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق نبيا لنمنعك مما نمنع منه أزرنا
(نساءنا وأهلنا)، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحروب، ورثناها كابرا عن كابر .. قال: فاعترض القول والبراء يكلم رسول الله، أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالا، وإنا قاطعوها ـ يعني اليهود ـ، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع لقومك وتدعنا؟، قال: فتبسم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم قال: بل الدم الدم، والهدم الهدم (أي ذمتي ذمتكم وحرمتي حرمتكم)،أنا منكم وأنتم منى، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم، ثم قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا، ليكونوا على قومهم بما فيهم، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا، تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس، وقد طلب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ منهم الانصراف إلى رحالهم، فقال رجل منهم: والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن عن أهل منى غدا بأسيافنا؟، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم، فرجعوا إلى رحالهم ) رواه أحمد .

تلكم بيعة العقبة الثانية، وما دار فيها من حوار بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والأنصار، وما أبرم فيها من عهود وبنود تقوم على: السمع والطاعة في السلم والحرب، والعسر واليسر ( تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل )، والإنفاق وبذل المال ( والنفقة في العسر واليسر )، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ( وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) ( وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائم )، ونصرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والدفاع عنه، والقتال بجانبه ( وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم، مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم )، ومع كثرة وصعوبة بنود وشروط هذه البيعة المباركة، لم يعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأنصار بدنيا يحصلوا عليها، أو زعامة وقيادة يتولونها، بل وعدهم بأمر واحد ـ وما أعظمه ـ ( ويعطينا على ذلك الجنة )، ومن يومها والأنصار يعرفون بالأنصار حتى أصبح اسما ملاصقا لهم .

إني لا أصافح النساء

لقد بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ في بيعة العقبة الثانية من الأوس والخزرج ثلاثة وسبعون رجلا، وامرأتان وهما: أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية وأم منيع أسماء بنت عمرو بن عدي - رضي الله عنهما ـ.
قال ابن إسحاق: " فجميع من شهد العقبة من الأوس والخزرج ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان منهم، يزعمون أنهما قد بايعتا، وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يصافح النساء، إنما كان يأخذ عليهن، فإذا أقررن، قال: اذهبن فقد بايعتكن ".
وعن أميمة بنت رقيقة التيمية ـ رضي الله عنها ـ قالت: ( أتيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في نسوة من الأنصار نبايعه، فقلنا: يا رسول الله، نبايعك على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيك في معروف، قال: فيما استطعتن وأطقتن، قالت: قلنا: الله ورسوله أرحم بنا، هلم نبايعك يا رسول الله، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: إني لا أصافح النساء!، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة ) رواه النسائي وصححه الألباني .
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: ( والله ما مست يـده يـد امرأة قط في المبايعة، ما بايعهن إلا بقوله: قد بايعتك على ذلك ) رواه البخاري، وفي رواية أخرى عند ابن ماجه: ( ولا مست كف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كف امرأة قط، وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن: قد بايعتكن كلاما ) .
قال ابن حجر:" قوله: ( قد بايعتكن كلاما )، أن يقول ذلك كلاما فقط، لا مصافحة باليد، كما جرت العادة بمصافحة الرجال عند المبايعة " .
وقال النووي: " قولها: ( والله ما مست يد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يد امرأة قط غير أنه يبايعهن بالكلام )، فيه أن بيعة النساء بالكلام من غير أخذ كف، وفيه أن بيعة الرجال بأخذ الكف مع الكلام، وفيه أن كلام الأجنبية يباح سماعه، وأن صوتها ليس بعورة، وأنه لا يلمس بشرة الأجنبية من غير ضرورة، كتطبيب، وفصد وحجامة، وقلع ضرس وكحل عين ونحوها مما لا توجد امرأة تفعله، جاز للرجل الأجنبي فعله للضرورة، انتهى " .
أما قول البعض بأن حرمة المصافحة كانت خاصة بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فهذه الدعوى يبطلها تحذير النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمته من مس النساء التي لا تحل لهم، فعن معقل بن يسار ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد، خير له من أن يمس امرأة لا تحل له ) رواه الطبراني وحسنه الألباني .
وإذا كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع كماله وعصمته قد ترك مصافحة النساء في البيعة وغيرها، ونهانا عن مصافحة المرأة الأجنبية، فعلينا أن نترك ما ترك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، لأن الله ـ عز وجل ـ أمرنا بالاقتداء والتأسي به، والائتمار بأمره والانتهاء عما نهانا عنه، قال الله تعالى: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة }(الأحزاب من الآية:21 )، وقال تعالى: { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا }(الحشر من الآية: 7) .

هكذا كانت بيعة العقبة الثانية التي غيرت من وجه الأرض، وكانت إحدى مقدمات الهجرة النبوية، والتي تمت في جو يفيض بمشاعر الحب والولاء، والبذل والتضحية، والنصرة والقتال، لذلك سماها عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ: بيعة الحرب، وقد صدق الأنصار في بيعتهم وعهدهم مع الله ـ عز وجل ـ، ومع رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وساهموا بأرواحهم وأموالهم في قيام وبناء الدولة المسلمة الجديدة في يثرب ـ المدينة المنورة ـ . 

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة